مجتمعات معزولة في منصات التواصل الاجتماعي

لا شك أن عبارة “التواصل الاجتماعي” فيها الكثير من الجاذبية، فالإنسان بطبعه كائن يبحث عن المجتمع ويحاول أن يخرج عن الفردية والعزلة، وتلك فطرة بشرية.
لكن الأزمنة الحديثة جلبت معها هذا المجتمع الجديد الذي لا يمكنك أن تصنفه إلا على أنه مجتمع افتراضي.
مجتمع غريب ومتنافر واعتباراته متشعبة وواسعة بسعة المجتمعات والثقافات والأجناس التي تعيش على أرض الواقع.
وإن كانت وسائل التواصل الاجتماعي قد “أعفت” منسوبيها من شرطهم العرقي والاثني وأصولهم وجذورهم إلا أنها ظلت في كثير من الأحيان خاضعة لتلك الاعتبارات لأن المستخدمين أنفسهم سيعودون إليها وبقوة أحيانا.
هؤلاء الذين يتوارون خلف الشاشات المضيئة سواء أجهزة الكومبيوتر أو الهواتف النقالة أو غيرها يصنعون نسيجا من العلاقات غير المسبوقة من قبل، إذ بإمكان أي أحد أن يدعي ما شاء عن نفسه وعن بيئته الاجتماعية من دون أن يتوفر شرط المصداقية في ما يقول.
ثم هنالك مجتمع يتاجر ويمارس السمسرة العلنية في هذا المجتمع الافتراضي، وهنالك موج السياسة الذي لا يهدأ وقد جرف معه من جرف حتى استقر في تلك المنصات وليشعل حوارات وجدلا لا يكاد ينتهي.
واقعيا وبعد كل هذا التوصيف نحن أمام ما يقرب من ثلاثة مليارات من البشر، هؤلاء الذين ينتمون إلى هذا المجتمع الافتراضي، وهم يشكلون قرابة 40 بالمئة من سكان العالم وكل منهم يقضي ما لا يقل عن ساعتين وهو يعلن انتماءه إلى هذا المجتمع الافتراضي.
هذه الملايين البشرية التي جمعتها منصات التواصل الاجتماعي سرعان ما تجد نفسها أمام استحقاق أن تتفق أو تختلف، مع أو ضد.. وبذلك تأسست مجتمعات في شكل جزر معزولة.
هل أنت أو أنتِ مع الحجاب أو ضده؟ وهل أنت أو أنتِ مع التوحيد في الميراث الذي يشغل المجتمع التونسي؟ وهل أنت أيها الإنكليزي أو الأوروبي مع بريكست أو ضده؟ وهل أنت مع الريال أو مع البارسا؟ وهل أنت مع مادورو أو ضده؟ وهل أنت مع أردوغان أو ضده؟ وهل أنت أيها الأميركي مع ترامب أو ضده؟ وهل أنت أيها العربي مع الحجاج وأمثاله أو ضدهم؟ وهكذا نمضي في سيرورة المع والضد إلى ما لا نهاية له.
هذه مقدمة تؤسس للمجتمع الافتراضي المنقسم على نفسه وصولا إلى تأسيس الكروبات المغلقة التي قبل أن تقبل طلبك في الانضمام إليها سوف يتم سؤالك أسئلة عدة لكي يتضح مسبقا من أنت وما موقفك مما يتفق عليه الكروب ويقدسه.
يشخص الباحثون إليوت بانيك ولورين أوفيريست ويوريوس نارديس في بحث لهم في مجلة وسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع، البحثية المتخصصة، يشخصون ظاهرة سلوكية – اجتماعية تشكلت في صميم مجتمعات التواصل الاجتماعي وهي ما يطلق عليه ظاهرة الاهتمام الجمعي، تلك التي تشكل قاسما مشتركا وأرضية للمجموعة تمهد لها عملية التفاعل والتآزر والاتفاق.
هذه الظاهرة ما لبثت أن تطورت في حالات الانقسام السياسي والمجتمعي كحالة البريكست أو ظاهرة ترامب أو ظاهرة أردوغان أو غيرها من الظواهر إلى سلسلة من الاهتمامات الخاصة التي لا تشبه اهتمامات آخرين وصار المجتمع البؤري المصغر كفيلا بالدفاع عن مصالحه وقناعاته الخاصة.
نتذكر أنه بالأمس القريب كان جمهور ضخم من مستخدمي تويتر وإبان صعود نجم تنظيم داعش الإرهابي يتعرض لأي مختلف معه في إدانة تلك الظاهرة السرطانية البشعة التي تمجّد مصاصي الدماء وعتاة السفاحين، كان هنالك مجتمع شديد القتامة من مغسولي العقول والمنحرفين وقد ملأوا الصفحات تمجيدا لتلك الظاهرة الرثة.
واليوم، نحن أمام المزيد من تأصيل وتمايز المجتمعات الصغرى أو التجمعات الصغرى والجزر المتباعدة التي تضم مستخدمين يجدون ملاذهم في قضية صغيرة أو جزئية يؤمنون بها أو بشخص أو بظاهرة، يدافعون عنها بضراوة ويشغلون أوقاتهم في الحفر فيها بينما العالم يموج بآلاف الظواهر والقضايا والتحديات التي لا تنتهي.