متى يتوقف المبدعون العرب عن التقليد ويأتون بالجديد

تحدي مناخ التضييق على الأفكار والحريات خطوة نحو رسم ألوان جديدة من الإبداع.
الأربعاء 2020/11/04
أعمال سينمائية جديدة بأفكار مستهلكة

يشكل ابتكار أفكار جديدة تحديا أمام المبدعين العرب في ظل النمطية الكبيرة والقوالب التقليدية التي تدور في فلكها الأعمال الفنية العربية في السنوات الأخيرة، وبرأي الجمهور والنقاد فإن الوقت قد حان لكي يطرح المبدعون العرب أفكارا جديدة وخلاقة تجنبا للتبعية الثقافية للغرب وللتصدي لظاهرة الاستسهال في إنتاج الأعمال الفنية، ويعد تحدي مناخ التضييق السائد والرقابة الصارمة خطوة نحو رسم ألوان جديدة من الإبداعات.

القاهرة – كثيرا ما تصطدم ماكينة الإبداع العربي بالمحاكاة والتقليد واستقاء واستحضار أفكار لمعت في السابق ولفتت الانتباه وحازت الإعجاب والتقدير، وهو ما يعرضها لانتقادات واسعة من الجمهور والنقاد على حد السواء، الذين يتوقون إلى إنتاج أعمال فنية بأفكار جديدة مستوحاة من الواقع العربي وبمجهودات خالصة من المبدعين العرب.

ولطالما اتهمت الأعمال الثقافية العربية سواء التلفزيونية أو السينمائية أو الروائية والغنائية بالتقليد واستنساخ أفكار مشابهة لضمان نجاحها.

وفي الآونة الأخيرة، أثار الفيلم السينمائي “صاحب المقام” والذي كتبه الإعلامي المصري إبراهيم عيسى، وأخرجه للسينما محمد جمال العدل، وقام ببطولته آسر ياسين، ويسرا، وأمينة خليل، حالة من الجدل في الوسط الثقافي، بسبب تشابه القصة مع فيلم إسرائيلي آخر بعنوان “مكتوب” بدأ عرضه على شبكة نتفليكس عام 2018، ما دفع البعض للقول إن المؤلف المصري استوحى قصته من الفيلم الإسرائيلي.

ويتمثل خط التشابه بين العملين في قيام بطل الفيلم باستخراج رسائل المواطنين في ضريح الإمام الشافعي، والعمل على تحقيق مطالب أصحابها، بينما يحصل ستيف بطل الفيلم الإسرائيلي على خطابات حائط المبكى لتعلم كتابة الرسائل، فيجد فيها طلبات متنوعة لأصحاب حاجات يرى أنها تستحق التحقيق، فيعمل على ذلك.

غير أن إبراهيم عيسى رد على موجة الانتقادات موثقا رده بخطابات تفيد الانتهاء من كتابة سيناريو “صاحب المقام” عام 2017، أي قبل إنتاج الفيلم الإسرائيلي وعرضه، ما يُبدد شبهات الاقتباس منه.

ومع ذلك لم تهدأ موجة الانتقادات المُلاحقة للفيلم، لأنه اعتمد على فكرة سبق أن طرحها أستاذ علم الاجتماع الراحل سيد عويس، وقدمها في كتاب حمل اسم “رسائل الإمام الشافعي” صدر سنة 1978، ما مثّل استنساخا لفكرة قديمة، ومنح المنتقدين فرصة الإيحاء للرأي العام بأن الفيلم قائم على فكر شخص آخر.

وبتوجه مشابه، فإن أي عمل درامي أو إبداعي يلمع نجمه على الساحة العربية يواجه بحكم عام يستسهل البعض إطلاقه، هو كونه مسروقا من أعمال عالمية، أو من فكرة سبق طرحها بواسطة آخرين، ما يعني أن هناك اعتقادا صارما يسود ساحات الإبداع العربي باستحالة إنشاء فكرة جديدة أو استحداث إبداع دون الاقتباس من عمل سابق.

مصطفى الرفاعي: هناك تصور غالب بأن كل ما هو غربي هو الأفضل
مصطفى الرفاعي: هناك تصور غالب بأن كل ما هو غربي هو الأفضل

تأثر بالغرب

في واقع الأمر، فإن الإبداعات الجديدة ذاتية التكوين شبه مُنعدمة في العالم العربي، ونادرا ما يطرح البعض أفكارا جديدة لأعمال إبداعية سواء كتابية أو فكرية أو فنية، وربما يرجع ذلك لأكثر من سبب.

ورأى مصطفى الرفاعي، وزير الصناعة المصري الأسبق في حديثه لـ”العرب”، أن “هناك شعورا دائما بالدونية لدى الإنسان العربي، ينتج عنه عدم ثقة بالذات، وتصور غالب بأن كُل ما هو غربي الأفضل والأعظم والأعلى قيمة”.

 ذلك الاعتقاد يرجعه البعض للتفاوت القائم بين العالمين العربي والغربي في مجالات التكنولوجيا، والعلوم المختلفة، مثل الطب، ونُظم الإدارة، والاقتصاد. فمادامت الدول الغربية أكثر تقدما فهي حتما أكثر دراية بالفن والإبداع، وهي التي لديها الحق في التجريب وبناء الأفكار وتنفيذها من اللاشيء.

ويشير عصام حسن، مصمم أغلفة كتب، لـ”العرب” إلى أن النجاح الأيسر لدى كثير من العاملين في مجال التصميمات الفنية مثلا، هو السير في الطريق ذاته الذي صار فيه مشاهير التصميم في الدول الكبرى، ومحاولة تقليد نماذجهم التي سبق أن أعجب بها الجمهور في العالم، بدلا من المخاطرة بتقديم نماذج جديدة قائمة على أفكار جديدة قد يرفضها البعض وينتقدها آخرون.

ويمكن القول إن المبدعين أنفسهم لم يعد في طموحهم البحث عن جديد، فثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة أدت إلى فتح نوافذ عديدة ومتنوعة للإطلال على تجارب الآخرين وإبداعاتهم في مجالات الفن والأدب، ورأت ذهنية الإبداع العربي أن محاكاة العالم الآخر أيسر وأسهل وأضمن للنجاح.

مناخ غير ملائم

ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة أدت إلى فتح نوافذ عديدة ومتنوعة للإطلال على تجارب الآخرين وإبداعاتهم في مجالات الفن والأدب
ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة أدت إلى فتح نوافذ عديدة ومتنوعة للإطلال على تجارب الآخرين وإبداعاتهم في مجالات الفن والأدب

يبدو مناخ التضييق السائد في العالم العربي غير ملائم، حيث انخفاض سقف التعبير، وتعدد القيود المفروضة على المبدعين، من قيود سياسية ودينية واجتماعية، تغلق الآفاق أمام كل أفكار مستحدثة وغير مسبوقة.

وتأتي الرقابة المفروضة على وسائل الإعلام من صحف وفضائيات، ودعاوى الحسبة الدينية التي تسمح بها بعض التشريعات في العالم العربي، لتضيف قيودا جديدة، فضلا عن اعتبارات العادات والتقاليد، وكلها تساهم في تعثر ميلاد ألوان جديدة من الإبداعات. فالمبدعون يتخوفون من ردود أفعال قد تكون حادة تجاه أفكار وطروحات لم يعتدها المجتمع، فيرتكنون للتقليدية.

علاوة على سيادة فكرة خاطئة لدى العقل العربي مُستمدة من التراث الديني ترى أن “شر الأمور مستحدثاتها، وكل مستحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”.

هذه الفكرة رغم تناقضها مع نصوص دينية أكثر حجية تدعو إلى التأمل والتدبر والتجديد، وترفض الأخذ بالميراث الفكري للسابقين دون تمحيص، إلا أنها تهيمن على العقل العربي وتحدّ من سعيه لإبداع جديد غير مألوف، فضلا عن أنها تُصبغ محاولات البعض النادرة لتقديم رؤى ونماذج مستحدثة، بالشذوذ، وتصمها بالانفلات لدرجة تجعلها في الضفة المقابلة للدين والتقاليد السائدة.

ثمة جانب آخر من القضية يتمثل في ضعف الانتباه للفن والإبداع من قبل المجتمعات العربية التي لا تتفاعل مع المنتج الثقافي التفاعل الكافي لدفع المبدعين إلى طرح رؤى خارجة عن المألوف، مُبتكرة تماما، ففي الغالب لا يجني كُتاب الروايات في معظم الدول العربية أرباحا تكفل لهم العيش الكريم، ما يقود في الأخير إلى إحباطهم.

وهناك مَن يرون أن تجديد الأفكار شبه مستحيل في عالم الإبداع عموما، سواء في العالم العربي أو غيره من العوالم، لأن التجارب الإنسانية تتشابه، ومن الطبيعي أن تتقارب بعض الأعمال الإبداعية بفعل المصادفة، بمعنى أن هناك أعمالا محلية تتشابه مع أخرى عالمية دون وجود رابط حقيقي، والعكس يحدث، لدرجة أن بعض النقاد العرب يرون أن قصصا عالمية لمبدعين غربيين تتشابه مع حكايات وردت في “ألف ليلة وليلة”.

انخفاض سقف حرية التعبير وتعدد القيود المفروضة على المبدعين، من قيود سياسية ودينية واجتماعية، يغلق الآفاق أمام كل أفكار مستحدثة

 وفي تصور هؤلاء، أن الأفكار على قارعة الطريق، والأنماط المستخدمة للإبداعات المختلفة، الرواية والقصة والفيلم والمسرحية، وحتى الشعر، هي نفسها مُنذ أكثر من ألف عام، لذا فتكرارها وتشابه بعض جوانبها والاعتقاد باستنساخها أمر وارد ومنطقي.

وأوضح الناقد الأدبي مصطفى بيومي، لـ”العرب”، أن صناعة إبداع من العدم أو الفراغ أمر نادر قد لا يتكرر كثيرا، وربما لا يحدث في الأساس ويتوهم البعض أنه حدث شبه يومي في العالم الغربي نتيجة محدودية الاطلاع. وأضاف “صحيح هناك إبداعات خالدة في العالم برقيها وسحرها وغموضها وبراعة صانعيها، لكن ذلك يبدو نادرا”.

وفي الوقت ذاته، لا يمثل تشابه أو تكرار أو استنساخ أفكار إبداعية عملية معيبة مادام التشابه يقتصر على الفكرة وحدها، ولا يمتد إلى النص ذاته، أو التركيبات اللغوية المستخدمة فيه.

وأشار بيومي إلى واقعة غضب الأديب المصري الراحل جمال الغيطاني، قبل نحو عشرين عاما، وتهديده باللجوء إلى القضاء عندما كتب السيناريست المصري وحيد حامد فيلم “النوم في العسل”، الذي قام ببطولته عادل إمام، حيث رأى الغيطاني أن فكرة الفيلم المتمثلة في انعدام القدرة الجنسية للمواطنين في القاهرة فجأة مأخوذة من روايته السابقة “وقائع حارة الزعفراني” التي قدمت الفكرة ذاتها لكنها حصرتها على حارة الزعفران.

ولفت إلى أن غضب الغيطاني وقتها لم يكن في محله، لأن الفكرة الحاكمة لقصته سبق طرحها في رواية عالمية في الستينات، وذلك ليس عيبا، لأن الإبداع يمكن أن يتحقق بميلاد فكرة من فكرة، وتشابك العوالم معا وتكرار الأحداث أمر يتفق مع طبيعة العالم الكبير المتسع والمزدحم والمتنوع والممتد شرقا وغربا.

طارق إمام: بالوسع الاستفادة من نص سابق لصناعة نص جديد
طارق إمام: بالوسع الاستفادة من نص سابق لصناعة نص جديد

ويعتقد كثيرون عدم وجود بأس في محاكاة مبدع ما في مكان ما لمبدع آخر، مادام النص المقدم متفردا بسمات جمال خاصة بكاتبها نفسه، وليس أوضح مثال على ذلك من رواية الأديب المصري الراحل صبري موسى، والتي حملت عنوان “السيد من حقل السبانخ” حيث صدرت لتحاكي رواية جورج أورويل الشهيرة “1984”، ولم يكن المؤلف ينكر ذلك أو يراه عيبا.

بالطبع لا يقتصر الأمر على عالم الرواية والأدب، فهناك أفلام سينمائية عربية تم تقديمها كمحاكاة لأفلام عالمية حققت نجاحا، ربما كان من أشهرها فيلم “شمس الزناتي” المنتج سنة 1991 بطولة عادل إمام وسوسن بدر ومحمود حميدة، وإخراج سمير سيف، والمقتبس من فيلم “الرائعون السبعة” الأميركي وأنتج سنة 1960، وهو نفسه مستوحى من فيلم “الساموراي السبعة” الياباني والمنتج سنة 1954.

هناك أيضا فيلم “الإمبراطور” المنتج سنة 1990 لأحمد زكي ورغدة، ومن إخراج طارق العريان، والمأخوذ عن الفيلم العالمي “الوجه ذو الندبة” المنتج سنة 1983 بطولة آل باتشينو.

فن المعارضة

يوجد فن معروف على الساحة الإبداعية اسمه فن المعارضة الأدبية، وهناك تفهم لتجاوز ذلك الفن فكرة المحاكاة أو التقليد المعتادة، حتى أن رواد هذا النوع من الإبداع يرون أن الجودة المفترضة قد لا تكون في الفكرة، وإنما في اللغة الحاكية للفكرة.

وأوضح الروائي المصري طارق إمام أن فن المعارضة الأدبية قائم على تقديم الجديد، وهو فن معمول به في كثير من بلدان العالم وليس عيبا أو استسهالا كما يتصور البعض، وثمة خلط لدى البعض في ساحة الثقافة العربية بين المعارضة والمحاكاة، لكن فلسفة المعارضة تقوم على كيفية الاستفادة من نص سابق لصناعة نص جديد.

وبرأيه فإن “أبسط دليل على ذلك عدم طلب الكاتب من القارئ أن يطلع على الروايتين السابقتين، وإن لم يفهم القارئ روايته ويهضمها دون قراءة الروايتين السابقتين فمعنى ذلك أن المعارضة فاشلة”.

ورأى أن المعارضة الأدبية هي فعل استعاري، أما المحاكاة فهي ترمز إلى التقليد، وبتوضيح أكثر يمكن القول إن في المعارضة النص السابق هو الواقع الخارجي للرواية وبناء عليه تتم إعادة تشكيله مجددا مثلما فعل غارسيا ماركيز مع كاواباتا في رواية “بيت الجميلات النائمات”.

وعلى سبيل المثال، عارض طارق إمام روايتي كاوباتا وماركيز في عمله الروائي الأحدث “طعم النوم”، والذي لاقى رواجا واهتماما أدبيا لافتا.

وعلى رغم هذا الطرح، فإن غير المتخصصين في الأدب لا يقتنعون بأن استنساخ فكرة من أخرى يمكن أن يُمثل جمالا، ولذلك فالتحدي الكبير أن يقدم المبدعون أفكارا جديدة تجذب الناس، وتؤكد القدرة على تقديم رؤى مبتكرة ومن خارج الصندوق، ولدى العرب الكثير مما يستطيعون تقديمه في مجالات مختلفة حال أرادوا ذلك.

12