مبدأ المواربة في مكافحة التطرف بتونس

"مدرسة الرڤاب" قد تمثل الشجرة التي تخفي الغابة والكشف عنها قد لا يخرج عن كونه بداية معركة جديدة لوضع حدّ لمبدأ المواربة وتفادي خطر اختطاف الدولة والمجتمع في غفلة من الجميع.
الجمعة 2019/02/08
مأساة مدرسة الرڤاب تمثل اختراق عائلات بأكملها وحملها على بيع أطفالها

ثمة شريط مخيف بدر على حين غرة بأذهان الكثيرين في تونس، عند اكتشاف مدرسة الرعب في “مدينة الرڤاب”، لا يبعد كثيرا عما حدث من حول “المسجد الأحمر” في باكستان قبل سنوات.

غير أن الاختلاف في ذلك أن المؤسسة العسكرية التي تخوض معركة مفتوحة مع طالبان في ذلك البلد، اتخذت قرارا حازما باقتلاع جذور التنظيم وكنسه من المسجد الشهير الذي تحول لفترة ما إلى غرفة عمليات مغلقة للجماعة.

لكن “مدرسة الرڤاب” التي تم الكشف عنها في غفلة من الدولة، أو بتغاض منها، أعادت المخاطر القديمة إلى نقطة البداية مع جرعات متقدمة من التخطيط والتغلغل والخطورة البالغة على المجتمع التونسي وعلى مؤسسات الدولة نفسها.

مأساة مدرسة الرڤاب لم تقف فقط عند هول ما سمعه التونسيون من اعتداءات جنسية وانتهاكات ممنهجة وسادية بحق أطفال جرى إخضاعهم لنظام السخرة الإقطاعي، إلى جانب التدريب الموجه لصناعة انتحاريين يفتقدون إلى الإحساس والانتماء أو حتى عقول للتفكير، بل إن الأكثر هولا تمثل في النجاح في اختراق عائلات بأكملها وحملها على بيع أطفالها والنجاح في تحييد المعايير الأخلاقية. وكل ذلك تحت يافطة القرآن.

في تونس تنتشر المئات من الجمعيات الدينية وأكثر من خمسة آلاف مسجد وجامع، عدد كبير منها كان مهددا بأن يكون معاقل دائمة للجماعات السلفية ونسخا متعددة للمسجد الأحمر. لكن جرت استعادة السيطرة عليها من قبل الدولة بعد جهد استمر لسنوات. لكن لا شيء يضمن حقيقة نهاية المطامح التي تضمرها بقايا الخلايا النائمة في الجهات.

لقد خسر الإسلام الراديكالي والإرهاب معارك كثيرة في هذا البلد رغم الترنح الذي عرفته مؤسسات الدولة في بعض الجولات. ولكن الخطر بقي كامنا إلى حدّ أن شقا من الجماعات السلفية المتشددة وبقايا تنظيم أنصار الشريعة المحظور، اختار أسلوبا متخفيا ومختلفا في معركته، يعتمد الاستقطاب والتجنيد والتغلغل في الفضاءات والأماكن المتوارية عن السلطة، بدل المواجهة المباشرة التي لا تلعب لمصلحته.

في مقابل ذلك فإن مبدأ المواربة لا يزال ثابتا في تونس التي تتلمّس طريق الديمقراطية في الجمهورية الثانية، وليست هناك ضمانات حقيقية لما يدعيه الفرقاء السياسيون بمن في ذلك الاسلاميون، من حسم لمسألة الهوية والتوافق غير القابل للتغيير، حول الأسس المرجعية للدولة المدنية برغم الاتفاق الظاهري الذي تضمنه دستور 2014.

صحيح أن هذا الدستور حسم مسألة “المدنية” وموقع الشريعة ومسألة حرية الضمير والمعتقد، غير أنه أبقى على الكثير من الغموض والقوالب الفضفاضة في عدد من فصوله بحيث يتعارض تأويل بعضها مع الآخر، ما جعل تحديد قراءة رسمية له أمرا صعبا في ظل التأخر المستمر في وضع محكمة دستورية منذ أكثر من أربع سنوات.

وعلاوة على ذلك لم تنته النقاشات خارج الدستور في مسائل يفترض أن تحدد إلى أي مدى تلقى المدنية والحقوق الكونية، قبولا لدى المحافظين والإسلاميين، وهي مسائل تتعلق بدور المرأة عموما في مواضيع المساواة في الميراث والزواج بغير المسلم والحريات الشخصية، وهي لا تزال حتى اليوم تمثل أوراق ضغط سياسية أكثر من كونها اختبارا لقناعات أو مراجعات فكرية.

والغموض نفسه يسيطر على مواقف الإسلاميين، منذ تسريب تسجيلات لقيادات حركة النهضة الإسلامية إبان صعودهم إلى الحكم في 2011، في السعي المحموم لضمان ولاء المؤسسات الحساسة مثل الجيش والتخطيط الطويل المدى للسيطرة على عقول الناشئة، وخطط تغيير النمط المجتمعي الحداثي الذي عرفت به عن تونس منذ بداية بناء دولة الاستقلال.

لا يمكن فصل تلك النوايا والخطط مع  طفرة الجمعيات الدينية والمدارس القرآنية في المدن وداخل الأحياء الشعبية والقرى البعيدة التي استفادت من قانون تكوين الجمعيات عام 2012 ومن مناخ الحرية بعد الثورة وضعف مؤسسات الدولة وأجهزة المراقبة، ولاسيما من تفكيك جهاز أمن الدولة.

و”مدرسة الرڤاب” قد تمثل الشجرة التي تخفي الغابة والكشف عنها قد لا يخرج عن كونه بداية معركة جديدة لوضع حدّ لمبدأ المواربة وتفادي خطر اختطاف الدولة والمجتمع في غفلة من الجميع.

13