مبادرات متعددة بلا حل للأزمة السودانية

شهد السودان خلال الأيام الماضية تحركات جديدة لحل أزمته المستعصية، تضاف إلى الجهود التي بذلت من قبل وجرى التجاوب معها أو لا تزال تحبو. ولا يشير الزخم في المجالين السياسي والإنساني إلى حجم الوطأة التي تمثلها الأزمة للسودان نفسه وقوى إقليمية ودولية عديدة فقط، بل إلى محاولة البعض دخول “أوكازيون” أو “بازار” للحفاظ على مصالحهم أو منع خصومهم من تحقيق أهدافهم، ما يحدث أقرب إلى شوشرة سياسية، يجعل المبادرات تتصادم ولا تلتقي عند قواسم مشتركة.
وتؤكد الوفرة في المبادرات والتحركات الأهمية الإستراتيجية للسودان، وتوحي بزيادة الشعور بالمخاطر التي ينطوي عليها استمرار الصراع فيه، بين قوات الجيش والدعم السريع، وقد توجد صعوبة في السيطرة على روافده بعد دخول مرتزقة وجماعات متطرفة وتنظيمات شعبية وثورية، ما يدخل المنطقة في فوضى جديدة تلغي الحد الأدنى من الأمن والاستقرار فيها، وتؤثر على دول مجاورة وتجعلها تتساقط كأحجار الدومينو، فالسودان نموذج مصغر لأفريقيا سياسيا وعسكريا وأمنيا واجتماعيا وثقافيا.
يمكن حصر المبادرات في أربعة أنماط رئيسية، يسير كل منها بمفرده حتى الآن، ولا يوجد تكامل معلن بينها، أو تنسيق كاف يفضي إلى تحقيق تقدم يمهد لوقف إطلاق النار، والتباحث حول الصيغة المناسبة للحكم لاحقا، وفي خضم الأنماط الأربعة توجد اجتهادات متباينة، تظهر وتختفي وفقا لدواع سياسية محددة.
النمط الأول: له بعد إنساني واضح، وتمثله الجولة الحالية من المفاوضات غير المباشرة بين وفدين من الجيش والدعم السريع في جنيف وترعاها الأمم المتحدة ويشرف عليها مبعوثها إلى السودان رمطان لعمامرة، ودارت حولها إشكاليات بشأن حضور وفد الجيش وامتناعه عن المشاركة في المفاوضات في أول يومين (الخميس والجمعة)، حيث وضع قائده الفريق أول عبدالفتاح البرهان شروطا قاسية تعرقل هذا المسار، أبرزها انسحاب قوات الدعم السريع من مدن سيطرت عليها الفترة الماضية.
◙ جمع قائدي الجيش عبدالفتاح البرهان والدعم السريع محمد حمدان دقلو وجها لوجه على أرض محايدة قد يمهد لوقف الحرب
مع أن عملية تسهيل توصيل المساعدات الإنسانية طاغية في هذا المسار، غير أن البعدين الأمني والسياسي حاضران في جولة جنيف الأممية، فكل التفاصيل التي تم وضعها لمناقشتها لا تخلو منهما، ما يقود إلى تقاطعات تستوجب الدراسة على مستويات مختلفة، لأن وصول قوافل الإغاثة لن يتم في وجود الاقتتال في المناطق التي تمر في دروبها، ولن يتسنى الاقتراب من الهدوء والأمن ما لم يتم التوصل إلى تفاهمات سياسية واضحة، وهكذا.
ترك تحرك الأمم المتحدة انطباعات بأنه منفصل عن تحركات تقوم بها جهات أخرى، وكل ما يهم المنظمة الأممية تبرئة ساحتها إنسانيا، وابعاد ما يتردد من شبهات حول عدم قيامها بما يجب في هذا المجال، وأن مبعوثها الحالي رمطان لعمامرة يبذل جهدا على أمل أن يحقق تقدما إنسانيا، ولا يريد تكرار خطأ المبعوث السابق فولكر بيرتيس الذي غرق في تفاصيل الأزمة سياسيا وحشر نفسه بين القوى المتصارعة، وانتهت مهمته بعد التشكيك في وجود انحيازات للدعم السريع على حساب الجيش.
النمط الثاني: يتعلق بالتركيز على القوى السياسية والمدنية، وظهرت تجلياته في المحادثات الجارية في أديس أبابا برعاية الاتحاد الأفريقي، خلال الفترة من العاشر إلى الخامس عشر من يوليو الجاري، ومن قبلها في ورشة القاهرة التي عقدت في السادس من يوليو أيضا، وكلاهما ضم قوى من مشارب وانتماءات مختلفة، منهم محسوبون على الجيش والدعم السريع، وشخصيات مستقلة.
ظهرت علامات الفشل على مؤتمر أديس أبابا قبل انطلاقه عندما أعلنت تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية (تقدم) اعتذارها عن الحضور بسبب دعوة قوى محسوبة على نظام الرئيس السابق عمر البشير للحضور، وعدم وضوح ما يمكن وصفه بـ”الترتيبات اللوجستية” من أجندة للمؤتمر وأسماء الحاضرين وأهدافه، وهو ما تحاشاه مؤتمر القاهرة السابق عليه، والذي حاول تجنب ما يمكن أن يفسد فعالياته، لكنه واجه لغطا عند التوقيع على بيانه الختامي، حيث رفضت قوى قريبة من الجيش التوقيع عليه.
بدت فكرة التركيز على القوى السياسية وتقريب المسافات بينها جيدة للخروج من ازدواجية الجيش والدعم السريع، وإيجاد طرف ثالث يضبط التوازن في المفاوضات المتعثرة، إلا أن الفكرة تكسرت جوانب منها على صخرة الاستقطابات الحادة، والتي تؤكد أنها مرض مستعص في السودان، ولا تعتدّ القوى المدنية بأن البلاد في حرب وعرة ومصيرها مجهول، إذ تصر على تغليب رؤاها ولو ضاع السودان، ما يعيد تكرار سيناريو ما بعد سقوط البشير، إذ واتت البلاد فرصة لتحول ديمقراطي حقيقي، لكنها ضاعت بين طموحات الجنرالات وعناد القوى المدنية.
النمط الثالث: هو جمع قائدي الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، والدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) وجها لوجه على أرض محايدة، الأمر الذي اعتقدت قيادات في دول الجوار الأفريقي، ورئيس “تقدم” عبدالله حمدوك، أن مجرد حضورهما على طاولة واحدة سينهي الحرب في السودان، وكاد هذا الهدف يتحقق، غير أن البرهان كان يتراجع في اللحظات الأخيرة، ولا يزال الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني يحلم بجمعهما قريبا.
جاء التركيز على جمع البرهان وحميدتي باعتبار أن الأزمة شخصية، وبافتراض أن كليهما يملك مفاتيح القرار بمفرده، وهما تقديران غير دقيقين، لأن الأزمة تجاوزت البعد الشخصي، ولا يملكان وحدهما الحل والعقد، وهناك جهات تصاعد نفوذها بعد اندلاع الحرب تقلل من هذه النوعية من الفرضيات، ما يعني أن شخصنة الأزمة أو اختزالها تسويتها في لقاء يجمع بين الرجلين يخل بالحقيقة، والتي تقول إن الصراع دخل نفقا مجهولا ربما يصعب تجاوزه في غياب توافق إقليمي ودولي، ما يعيد إلى الأذهان مقاطع ومشاهد مما جرى ولا يزال يجري في ليبيا، حيث تتحكم في الأزمة قوى مختلفة، داخلية وخارجية، وما المبادرات المتعددة سوى انعكاس لها.
النمط الرابع: تمثله المبادرة السعودية – الأميركية، أو ما يعرف بمفاوضات منبر جدة، وانطلقت مبكرا بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب، وكادت تحقق تقدما تحطم على صخور لا أحد يعرف بالضبط من الذي وضعها في الطريق، مع أنها الأكثر شمولا، وظهرت قبل أن تزداد تعقيدات الأزمة ودخولها في دهاليز أشد صعوبة، وكان يمكن لها أن تنجح لو توافرت النوايا الحسنة من الطرفين المتصارعين، وحتى محاولات تطويرها بمشاركة مصر والإمارات لم تشهد نجاحا، وأصيب منبر جدة بأمراض المبادرات الأخرى، متمثلة في المزايدة والصخب والسعي لتفشيله سياسيا، لأن هناك من يريدون للحرب الاستمرار.
لا يزال منبر جدة هو البوتقة التي يمكن أن تنصهر فيها مبادرات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وهيئة إيغاد، والجهود التي تبذلها مصر وإثيوبيا وغيرهما، فقد حقق تقدما يمكن البناء عليه وتجنب العودة إلى نقطة الصفر في المفاوضات، وتطويره عبر مشاركة قوى إقليمية مؤثرة، لأن استهلاك الوقت في البحث عن مبادرات جديدة غير مكتملة سوف يخلق واقعا جديدا قد يصعب تغييره بالأدوات السياسية أو العسكرية.