ما يعيشه العالم الآن: صيرورة عادية أم إنذار بالفوضى

تأبى دائرة العنف أن تتوقف في العالم، حيث تجاوز خطر الحرب والتهديدات الإرهابية منطقة الشرق الأوسط ليشمل مناطق أخرى منه. جرس الإنذار بات يهدد القوى الإقليمية الكبرى بسبب التصعيد الأخير لكوريا الشمالية وإطلاق صاروخ باليستي نحو اليابان حليفة الولايات المتحدة. التصعيد العسكري يرافقه تصعيد إنساني في منطقة أخرى من العالم في ميانمار حيث يلاقي الآلاف من أقلية الروهينغا المسلمة حتفهم في تصفية عرقية عنصرية مخزية لكل لإنسانية. كل هذه الأحداث تنبئ بتفاقم التحديات على كاهل المجتمع الدولي وتدفع بالتساؤل هل ما يمر به العالم الآن هو مرحلة حتمية أم إنذار بجنون العالم؟
الاثنين 2017/09/11
كارثة إنسانية في بورما

العالم يتحرك باستمرار ويسير بنسق تصاعدي وربما بأسرع ما يكون. الحروب بشتى أنواعها، وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، بروز تنظيمات إرهابية أشد فتكا على غرار داعش، تضاف إلى ذلك العديد من التحديات التي يعيشها العالم والتي جعلته يمرّ بأقوى مرحلة من نقص في الموارد المائية والطاقية والعديد من الظواهر المناخية والتقلبات الجوية التي أدت لحدوث كوارث طبيعية، على غرار إعصاري هارفي وإيرما المدمّرين، كلها عوامل تعجّل بدق جرس الإنذار من المخاطر القادمة وتبعث على التساؤل، هل ما يمر به العالم الآن هو مرحلة حتمية وضرورية لا بد من الوقوف عندها، أم أنه إنذار بجنون العالم؟

في التصورات العادية لأغلب الآراء المحللة لوضعية العالم وخصوصا المرحلة التي يمر بها الآن، تستند أغلب القراءات إلى العديد من المعطيات الدالة على حدوث نقلة نوعية في مسار العالم.

من بين هذه المعطيات ما يشهده الشرق الأوسط من نقلة في مستوى الحروب الدائرة هناك. المسار الفعلي للأحداث، الذي ينطلق العدّ الفعلي له منذ أحداث الربيع العربي ليضع البعض من البلدان العربية في دائرة العنف، على غرار التغيير الحاصل في ليبيا واليمن وسوريا، وبصفة استثنائية العراق باعتبار أن احتلاله من قبل القوات الأميركية (2003) جاء قبل ثورات الربيع العربي، لا يستثني العديد من البلدان الأخرى في أفريقيا وآسيا الواقعة تحت تأثيرات التنظيمات الإرهابية والتصفية العرقية ولو بمنسوب أكثر دموية على غرار ما يحصل اليوم في بورما ضد أقلية الروهينغا المسلمة.

رغم الإقرار في البداية بأن أبعاد الأزمة، إن صحّ التعبير، التي يمر بها العالم لا يمكن حصرها لجهة التشابك والتداخل في العديد من العناصر المكوّنة لها، إلا أنه في المقابل يمكن استنادا إلى العديد من العناصر الأساسية تشخيص هذه الأزمة وإبراز ملامحها للعيان بناء أولا على معطيات الأرض، وثانيا وفقا لبعض المصادر التي تدعم صحة الفرضية دون أن تفنّدها.

أزمة بنيوية

العالم يتشكل من بنى مختلفة ومتراصة ومتكاملة تنسج خيوطه، لكن أحيانا يصير نوع من التفكك في هذه البنى إما بفعل فاعل، أي بتدخل الإنسان، وإما نتيجة لعوامل جغرافية وتاريخية وأساسا طبيعية يكون دورها مؤثّرا وفاعلا في تفكيك النّسيج البنيوي للعالم.

الصراع بين القوى الكبرى في العالم سمح بتفكيك بنيوية العالم وأسهم في خلق صراعات معلنة وأخرى خفية

بعيدا عن المصطلحات والسياق المفاهيمي، تتلخّص الأمور على الأرض في أزمة بنيوية أساسها التفاعل بين عناصر طبيعية وأخرى بشرية أدت إلى حدوث انشراخ وفجوة في النسيج الكوني للعالم وأفضت إلى مرحلة من العنف الإرهابي الذي بات يتهدّد المعمورة من أقصاها إلى أقصاها.

داعش والقاعدة والحرس الثوري الإيراني والجيوش البازغة في أفريقيا بمختلف أصنافها، كل هذه التنظيمات بجميع مسمّياتها تشكل آلية من آليات تقسيم العالم وتفتيته لأجزاء على وقع حروب دامية بعضها مسلّط على الشعوب العربية وبعضها الآخر موجّه إلى الغرب من خلال تفجيرات وعمليات دهس طالت العديد من المدن والعواصم في السنوات الأخيرة. كل ذلك يدفع إلى تساؤل حول آلية التحكم ومن يقود العالم؟ من المتحكّم في مسار الأحداث الجارية؟ ومن المستفيد من هذا التشظي والانشطار الذي يعيشه العالم في السنوات الأخيرة؟

الجواب عن هذا الأسئلة قد يبعث على التمعّن في مجرى الأحداث التي يشهدها العالم وتقصّي الأدوار الموكلة إلى البعض من الحكومات وخصوصا الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وبريطانيا.

هذه الدول تحرّكها نزعة التحكم والسيطرة على العالم ولم تترك مجالا إلا وخاضت فيه. المسألة رغم تاريخيتها إلا أنها تبرز بصورة جلية على الميدان الآن. دعم فرضية الصيرورة التي يشهدها العالم جادّ في هذا الاتجاه. الولايات المتحدة من جهة برئيسها دونالد ترامب المحكوم بمغامراته التي ليست لها حدود وآخرها تدخله في ملف التسليح النووي لكوريا الشمالية وبروز ملامح توتر وحرب كلامية ووعد ووعيد مع الزعيم الكوري جون كيم أون، فيما روسيا التي استعادت قدراتها العسكرية وهيبتها في العالم مع بوتين تعمل على التدخل في أكثر من ملف منها الملف السوري، الذي يضمن لها قدرا من السيادية الدولية يبقيها في موضع قوة.

شكل الصراع بين القوى الكبرى في العالم، خصوصا ما يتعلق بالقوتين الدوليتين الولايات المتحدة وروسيا، سمح أيضا بتفكيك بنيوية العالم وأسهم في خلق صراعات معلنة وأخرى خفية تتحكم في مصير البعض من البلدان وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط، لكن ماذا عن الصراعات الأخرى المؤججة في أكثر من إقليم في العالم على غرار الدول الأفريقية ومنطقة آسيا؟

صورة حية من العالم

صورة من العالم تتشكل هذه الأيام في بورما وتحديدا في ولاية أراكان، أبطالها من أقلية الروهينغا المسلمة الذين يلقون حتفهم في منطقة متفرقة من العالم. مسلمو أراكان في ميانمار الذين يعانون فصلا من فصول الحرب المدمّرة التي أوقعت العديد منهم ضحايا الحرق، فيما فرّ آخرون تحت دويّ المدافع وصولات جيش بدأ بالتشكل في منطقة تفتقد للإغاثة وتدخّل المنظمات الدولية للإنقاذ. تقر آخر إحصائية بأن ما يقدر بنحو 270 ألف لاجئ من الروهينغا المسلمين فرّوا إلى بنغلاديش المجاورة منذ اندلاع الصراع في ميانمار في أغسطس الماضي.

من المستفيد من فظائع الحروب والانشطار الذي يعيشه العالم

هول المعارك وبشاعة الجيش الصاعد هناك في الانتهاكات، من قتل وحرق وسبي واختطاف، كلها أمور عجّلت بفرار هؤلاء من بطش الصراع المطبق عليهم. في نظر العديد من المحللين المسألة تتعدى الحرب الدائرة والصراع المحتوم على هؤلاء خوضه، ليتم فضح الموارد المحدودة لوكالات الإغاثة والمجتمعات المحلية وعجز أغلب المنظمات الدولية عن الإيفاء بوعودها في فك العزلة عن هؤلاء ومساعدتهم على الخلاص.

وسط هذا الصراع تحاول العديد من الدول الدفع بأجنداتها الخفية والركوب على الحدث على غرار تركيا التي تسعى إلى كسب تعاطف مع ما يتعرض له المسلمون في بورما. موقف تركيا عبّر عنه زعيمها رجب الطيب أردوغان الذي قال “إن بلاده تقوم بحراك دبلوماسي متعدد الأطراف لإنهاء المأساة الإنسانية في إقليم أراكان ذي الغالبية المسلمة”. موقف التعاطف هذا يراه محللون دخولا لتركيا من الباب الخلفي لكسب تعاطف الرأي العام العربي خصوصا وإظهار حماسة زائدة عن مواقف أغلب الدول العربية التي أعلنت استنكارها وإدانتها لما يتعرض له المسلون في هذا الإقليم المضطرب من العالم.

الصورة تنتقل إلى إقليم آخر من العالم الذي أنهكته حالات الظروف المناخية وتقلبات الأحوال الجوية في الفترة الأخيرة. فبعد أقل من عشرة أيام من إعصار هارفي المدمر، يترقب الأميركيون بقلق مسار الإعصار إيرما في المحيط الأطلسي الذي يبدو متّجها إلى منطقة جزر الكاريبي. وأفادت قناة “ويذر تشانل” للأرصاد الجوية أن إيرما إعصار من الفئة الثالثة على مقياس من خمس فئات، لكن مساره مازال “غير مؤكد ويصعب توقّعه”.

وأشارت توقعات إلى احتمال صعود هذه العاصفة على امتداد الساحل الشرقي للولايات المتحدة الذي يتضمّن مناطق ذات كثافة سكانية كبرى. فيما يفيد المركز الأميركي لمراقبة الأعاصير بأن الرياح المرافقة لإيرما بلغت سرعتها 175 كلم في الساعة،

متوقعا اشتدادها في الأيام المقبلة. كما أصدر المركز إرشادات لجزر الأنتيل الصغرى بين بحر الكاريبي والمحيط الأطلسي تقضي بـ”رصد تطور إيرما”، مضيفا أن عددا من جزر الأرخبيل قد تواجه عاصفة استوائية أو إعصارا، اعتبار من الأحد الـ10 من سبتمبر الحالي.

تحديات مستقبلية

يرتسم مشهد آخر من العالم على مستوى التحديات التي تعيشها شعوبه من فقر ونقص في مياه الشرب وغذاء وغيرها، ما يضع العديد من الدول أمام أزمة حقيقية تتعلق أساسا بدعم التنمية في البلدان المتضررة.

وفي هذا الإطار يذكر البنك الدولي أن تحقيق هدف التنمية المستدامة المتمثل في الحصول على خدمات المياه والصرف الصحي المدارة على نحو آمن بحلول عام 2030 سيتطلب أن تنفق بلدان العالم 150 مليار دولار سنويا، أي بزيادة الاستثمارات في مياه الشرب والصرف الصحي والصحة العامة أربعة أضعاف ما يُنفق في الوقت الراهن، وهو أمر يصعب تحقيقه وبعيد المنال بالنسبة إلى الكثير من البلدان، مما يهدّد التقدّم نحو إنهاء الفقر.

جاء ذلك في تقرير للبنك الدولي يشير فيه إلى ضرورة إجراء تغيير جذري في أسلوب إدارة البلدان لمواردها وتقديم الخدمات الرئيسية، واستهدافها لضمان وصولها إلى من هم في أشد الحاجة إليها، ومعالجة أوجه القصور لضمان أن تكون الخدمات العامة مستدامة وفعّالة.

داعش والقاعدة والحرس الثوري الإيراني، كل هذه التنظيمات بجميع مسمياتها تشكل آلية من آليات تقسيم العالم

وفي تقرير آخر صادر عن البنك الدولي أيضا تحت عنوان “ما بعد الندرة: الأمن المائي في الشرق الأوسط وشمال أفریقیا”، جاء مفنّدا لما أورده التقرير الأول حول إمكانية حدوث أزمة في العالم بسبب النقص الحاصل في مياه الشرب، يقدّم التقرير دلائل وبراهين وأمثلة إقليمية وعالمیة لإثبات أنه يجب ألا تؤثر محدودية الموارد المائیة على مستقبل المنطقة، بل يمكن حتى استخدام مزيج من التكنولوجيا والسیاسات والإدارة لتحويل تلك الندرة إلی أمن.

مهمة إنجاز هذا الأمر منوطة بعهدة البلدان المعنية بالمحافظة على الموارد الطبيعية وطرق إدارتها وخصوصا بلدان المنبع، وفي هذا المستوى يقول حافظ غانم، نائب رئيس البنك الدولي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، “إذا كنا نفكر في موارد المياه كحساب مصرفي، فإن المنطقة سحبت الآن على المكشوف بشكل خطير”. ويضيف “سحب المياه من الأنهار ومكامن المياه الجوفية بمعدل أسرع من معدل تجديدها يماثل أن يعيش المرء في مستوى يتجاوز موارده. هناك حلول لهذا الوضع، وهي تبدأ بوضع حوافز واضحة لتغيير الطريقة التي تدار بها المياه”.

ويتفق معه في هذا الطرح جوانجزهي تشن، المدير الأول لقطاع الممارسات العالمية للمياه بالبنك الدولي، الذي قال “إلى جانب تحسين الإدارة، هناك مجال لزيادة المعروض من خلال الطرق غير التقليدية مثل تحلية المياه وإعادة التدوير.. ولحسن الحظ، أثبتت العديد من البلدان نجاحا في تنفيذ برامج مبتكرة للحدّ من كمية المياه التي يتم إنتاجها وفقدانها قبل أن تصل إلى المستهلك”.

في العالم العربي يرتسم مشهد ضبابي يعيش على وقعه العرب مع تسارع بلدانه إلى إيجاد حلول لإنهاء الصراع وإيقاف عجلة الحروب في أكثر من مكان، على غرار اليمن المنهك بأمراضه وشدة القتال فيه، وسوريا المقسّمة بإدارة دولية، وليبيا الواقعة تحت إرهاب تنظيم داعش الذي يستنزف مدخراتها ويضعها في خط النار.

عمليا طرق العلاج ممكنة لكن الكيفية في الإدارة وإيجاد الحلول وهذا يتحقق بأسلوب الحوار والجلوس إلى طاولة النقاش.

عديدة هي المؤتمرات والاجتماعات والقمم العربية لكنّ أيّا منها لم يخرج بما يخدم البعض من الدول المضطربة والتي تمرّ بمرحلة أزمة، عدا بعض المواقف الصريحة لبلدان الخليج، على غرار السعودية والإمارات اللتين تسعيان إلى بناء جسور التواصل ودعم مسار التوافق بين العديد من الآراء المختلفة والرؤى المتباينة التي طبعت المواقف العربية في الفترة الأخيرة وخاصة الأزمة الأخيرة المتعلقة بقطر.

كاتب تونسي

6