ماكرون والخيار الأخير ضد الانقلابيين

قبل ست سنوات وعلى هامش الزيارة التي قادته إلى بوركينافاسو، خاطب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طلاب جامعة واغادوغو قائلا “أنا لم آت إلى هنا لأخبركم ما هي سياسة فرنسا الأفريقية كما يدعي البعض، لأنه لم تعد هناك أي سياسة أفريقية من فرنسا”.
ومن المفارقات العجيبة أن كذبة ماكرون تتحول اليوم إلى حقيقة، ليس لأن هذا الأخير قد أثبت صدق نواياه، وإنما كان ذلك بسبب قصر النظر وغياب الحنكة السياسية التي قاد بها السياسة الخارجية الفرنسية إلى فشل ذريع، ثم توالت الأحداث إلى أن أفرزت الانقلابات العسكرية واقعا سياسيا جديدا انتهت به مصالح فرنسا ومسيرة ماكرون السياسية قبل أن تنتهي فترة إقامته في قصر الإليزيه.
لم يعد خافيا أن فرنسا في قلب ورطة بعد أن تراجع نفوذها بشكل كبير في منطقة الساحل الأفريقي خلال السنوات الأخيرة، وبعد أن أظهرت روسيا ندية كبيرة ومنافسة شرسة لها ترجمتها بميلاد أول قمة روسية – أفريقية في سوتشي عام 2019، وبعد أن أدارت الإدارة الأميركية ظهرها لخطة التدخل العسكري عبر أداة “إيكواس”، لما لها من أعباء ستزيد من عبء فاتورة الحرب المفتوحة في أوكرانيا.
◙ مثلما دعمت فرنسا بعض الرؤساء، إما من فوق ظهر دبابة أو عبر الانتخابات المزورة، وقادتهم إلى قصور الرئاسة، كانت أيضا وراء إبعادهم بعد أن حاولوا التمرد
شكل هذا الموقف الأميركي ضربة موجعة لفرنسا التي لم تكن تتوقع أن تتعامل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ببرود مع ما يجري في الساحل الأفريقي، خاصة وأن كل ما حدث يعزز بشكل أو بآخر فرص روسيا بالاستثمار في هذه الانقلابات، ولكن حتى وإن كانت واشنطن لا تهتم لهذه الانتكاسة الفرنسية، إلا أنها موجودة بالقرب من المشهد ومما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، وهي تحاول تدارك الموقف بغية قطع الطريق أمام محاولات التمدد الروسي – الصيني، من خلال المقايضة والضغط على قادة الانقلابات العسكرية، إما عبر توفير غطاء شرعي لسلطتهم التي لا بد أن تقدم المقابل لأميركا، أو عبر حثهم على تسليم السلطة والسماح لها برسم مشهد مرحلة انتقالية بأدوات ديمقراطية إذا كانت خطواتهم بالفعل تسعى إلى التحرر من قيود الهيمنة. وفي كلتا الحالتين سيضمن الخيار الأول والثاني سد فراغ وكلاء فرنسا الذين سقطوا.
دخلت علاقة فرنسا بأفريقيا اليوم مرحلة مفصلية تبدو فيها إدارة ماكرون غير قادرة على التحكم في زمام الأمور، بعد أن أصبح إنهاء الوجود الفرنسي بجميع أشكاله مطلبا شعبيا ملحا نتيجة لتراكمات تاريخية. ربما قد أكسب هذا الأمر الانقلابيين نوعا من الشرعية تسمح لهم بتثبيت سلطتهم في هدوء، بعد أن ضمنوا مساندة الشارع لخطوتهم التي تضع دحر فرنسا كأولوية. يأتي هذا كله بعد أن استهلك رؤساء فرنسا السابقون جميع الفرص التي كان بالإمكان استغلالها للارتقاء بعلاقة جديدة ترتكز على مبدأ رابح رابح، وهي المقاربة الأنجع لضمان مصلحة اقتصادية وشراكة طويلة الأمد مع قارة تريد شعوبها التخلص من أساليب الهيمنة والاستحواذ والتبعية.
بعد أن فشلت فرنسا في استعمال “كارت” التدخل العسكري في النيجر بغية إعادة توجيه الدفة بما يخدم مصالحها، وازدادت تعقيدات استعمال هذا الخيار مع ميلاد تحالف دفاعي يجمع مالي والنيجر وبوركينافاسو، ثم فشل أيضا “كارت” الانقلاب على المنقلبين في بوركينافاسو بعد أن أعلن المجلس العسكري مؤخرا عن إحباط محاولة انقلابية، قد تتجه إدارة ماكرون إلى إحدى أنجع الوسائل التي استعملها السياسيون الفرنسيون السابقون لكي تضع حدا لما حدث ويحدث، وهي العودة إلى سياسة الاغتيالات لعلها تتمكن من بعثرة الأوراق وتقطع الطريق أمام الانقلابيين الجدد، قبل أن يثبتوا أقدامهم في السلطة بدعم خارجي، ويصبح من الصعب أن يطالهم الانتقام الفرنسي.
◙ الموقف الأميركي شكل ضربة موجعة لفرنسا التي لم تكن تتوقع أن تتعامل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ببرود مع ما يجري في الساحل الأفريقي
منذ تأسيس الجمهورية الخامسة تركت فرنسا بصماتها في العديد من الاغتيالات، بعد أن تخلت عن وجودها العسكري في مستعمراتها لصالح قادة عسكريين ومدنيين، كان المطلوب أن يقتصر دورهم على تولي حكم صوري يضمن بقاء مصالح فرنسا الاقتصادية. كان جاك فوكارت صديق الرئيس الفرنسي شارل ديغول مسؤولا عن “شبكة فرانس أفريك “ومهندسا لقائمة طويلة من الانقلابات التي استبدلت من خلالها فرنسا الزعماء الذين حاولوا أن يشقوا عصا الطاعة، بدءا بالرئيس المالي موديبو كايتا سنة 1962، والتوغولي سيلفانوس أوليمبيو 1963، اللذين أطاحت بهما فرنسا بانقلاب عسكري، بعد أن تبنيا فكرة التحرر الاقتصادي واستبدال الفرنك الأفريقي بعملة محلية.
انتهى هذا الطموح بالرجل الأول في السجن أين تم تسميمه والقضاء عليه، وبالرئيس الثاني إلى المقبرة قبل أن يصل إلى السفارة الأميركية ويحتمي من الانقلابيين. ثم أتى الدور على الزعيم البوركيناوي توماس سانكارا الذي اغتيل في انقلاب عسكري بعد أن دعا قادة منظمة الوحدة الأفريقية إلى التمرد ضد المستعمر القديم، والعدول عن دفع الديون المستحقة له.
ومثلما دعمت فرنسا بعض الرؤساء، إما من فوق ظهر دبابة أو عبر الانتخابات المزورة، وقادتهم إلى قصور الرئاسة، كانت أيضا وراء إبعادهم بعد أن حاولوا التمرد، على غرار ما حدث في الغابون مع حليفها ليون إمبا، وفي تشاد مع حسين حبري، وفي جزر القمر مع أحمد عبدالله.
لا أدري ما إذا كان ماكرون قد سمع جملة الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران الشهيرة التي قال فيها إنه “لا وجود لفرنسا في القرن الحادي والعشرين من دون أفريقيا”، ولكنني على يقين بأنه مؤمن بمقولة مكيافيللي التي يرى فيها أن الغاية تبرر الوسيلة. وهذا ما يعني أن اللجوء إلى سياسة الاغتيالات قد يكون السبيل الوحيد المتبقي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تتحقق مقولة ميتران.