ماسبيرو زمان.. الهروب من فشل الحاضر إلى "الزمن الجميل"

تحمل الشعوب العربية نوستالجيا خاصة لكل ما هو ماض، وتجعل من قواعده وقوانينه مقياسا للتعامل مع قضايا الحاضر وتصر على تطويع اجتهاداته وخصوصياته على الزمن الحديث. يستفاد من الماضي حين يفهم في إطاره، أما حين يتحول إلى معيار أو مقدّس فإنه يصبح عائقا ومكبلا وخطرا أيضا عند تأويله في غير سياقه، لكنه في سياقات أخرى قد يتحول تعزيز قيمة الحنين إلى الماضي إلى مصدر إفادة وربح لجهات تحسن استغلاله، وهو ما استفاد منه عدد من وسائل الإعلام وأساسا الفضائيات التي تحمل لقب “زمان” على غرار روتانا زمان والمولود الجديد في فضاء إعلام الزمن الجميل قناة ماسبيرو زمان.
السبت 2017/07/29
النظر في مرآة الماضي بحثا عن حلول لتحديات الحاضر

القاهرة - أصبحت عبارة “فن الزمن الجميل” نستعملها للإشارة إلى فن الزمن الماضي، بمحاسنه ومساوئه، ولم تعد تشير فقط إلى الأعمال الخالدة التي بقيت من ذلك الماضي، فما السر وراء اقتران الماضي دائما بالجمال؟ ولماذا «الماضي» هو الأجمل؟، هل هي عادة توارثها العرب بانحيازهم إلى كل ما سبق، أم أنه بالفعل زمن حمل مقومات خاصة تجعله «جميلا» مقارنة بزمن اليوم؟

جزء من الإجابة نجده في قول لطه حسين في كتاب في الشعر الجاهلي جاء فيه أن “القديم خير من الجديد، والقدماء خبر من المحدثين. يؤمن العامة إيمانا لا سبيل إلى زعزعته… نفضل القديم لأنه قديم من جهة ولأننا ساخطون بطبعنا على الحاضر من جهة أخرى”، وهي ظاهرة عامة تشتهر أساسا في مجال الأدب والفن، وتشمل مختلف مجالات الحياة من الفن والأدب إلى التعليم والتربية إلى السياسة وحتى المجال الديني.

وترفع أوضاع الكثير من الشعوب العربية من حالة النوستالجيا المفرطة وتزيد من هالة قديس ذلك “الزمن الجميل” والذي قد يمتد إلى قرون غابرة، ضمن توجه اتخذ أبعادا سياسية واقتصادية، حيث الحياة على أغاني الأموات تشكل مصدر إفادة وربح. وفي أحدث مثال على ذلك، النجاح الذي حققته قناة جديدة لكنها تبث مواد إعلامية قديمة، وهي فضائية ماسبيرو زمان.

وفي ظل التراجع الذي سجلته الفضائيات المصرية، الحكومية أساسا، وظهور محطات حديثة سرقت الأضواء منها ومن أعمالها، خيّر اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري العودة إلى “الزمن الجميل” والنبش في أرشيفه واستغلال الكنز الإعلامي الذي أنتجه التلفزيون المصري أثناء فترات توهجه في سبعينات القرن الماضي.

نجاح مثير للجدل

في زمن قياسي نجحت فضائية “ماسبيرو زمان” في أن تكون الورقة الرابحة في ظل حالة الركود التي تعانيها باقي المحطات الحكومية المصرية.

شاكر عبدالحميد: المقارنة بين نخب الماضي والحاضر ظالمة فظروف العصر الحالي مختلفة

استطاعت القناة الوليدة أن تستحوذ على اهتمام المشاهد المصري وامتدت آثارها إلى المشاهد العربي، وانعكس ذلك على دخولها على الخارطة الإعلانية للفضائيات العربية مؤخرا، كما جذبت جزءا من جمهور مواقع التواصل بعد أن سجلت نسب مشاهدات مرتفعة على اليوتيوب.

وأثارت حالة النجاح التي حققتها تلك القناة جدلا إعلاميا كبيرا بسبب قدرتها على جذب أعداد كبيرة من الجمهور الذي وجد في العودة إلى الماضي عنصرا ملهما له فأخذ يبحث عن ترددات القناة (التي لم يتم التسويق لها بالشكل الجيد)، أملا في تلقيه وجبة إعلامية دسمة من الزمن الماضي لتعويض جزء من مشكلات الحاضر بكل جوانبه.

ولم يتوقف الجدل عند الحالة الإعلامية، وإنما تخطاها ليتخذ أبعادا أخرى سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية، كما أثار قضية التعلق المفرط بكل ما هو قديم.

وبحسب البعض من المراقبين، فإن حالة الحنين إلى الماضي لم تكن وحدها سبب ارتباط الجمهور بالقناة، فهناك عوامل أخرى، منها الافتقار حاليا إلى البيئة القادرة على فرز رموز إعلامية ناجحة وعدم السماح للمواهب الفردية بالظهور، ما يفضي في النهاية إلى عدم قدرة النخبة الحالية على جذب الجمهور إليها، ليس في مجالات الإعلام فحسب بل في كل المجالات.

غير أن شاكر عبدالحميد وزير الثقافة المصري الأسبق قال لـ”العرب”، إن المقارنة بين نخب الماضي والحاضر ظالمة لأن تطورات العصر الحالي تختلف بشكل كلي عما كان موجودا في الماضي. وعصر ما بعد الحداثة يطغى عليه “التغير” وليس “الثبات” كما كان الأمر في الماضي، وذلك تحديدا ما ساهم في التركيز بشكل دقيق على أدباء ومثقفي الماضي على عكس الأجيال الحديثة.

وذهب آخرون إلى التأكيد على أن هناك جانبين رئيسيين يحددان انجذاب الجمهور إلى القناة الجديدة؛ الأول إعلامي يرتبط مباشرة بأوضاع المؤسسات الإعلامية الحكومية، والثاني مرتبط بمجمل الأوضاع الاجتماعية والثقافية وتأثير ذلك على قيمة وأهمية النخب التي تشكل وعي الجماهير واهتماماتها. وكان من اللافت أن هذا التأثر الشديد من جانب الجمهور بالقناة الجديدة تحقق رغم وجود مشكلات بعضها تقني، بسبب قلة جودة المحتوى المقدم، والبعض الآخر إداري مثل عدم الالتزام بمواعيد عرض البرامج، بالإضافة إلى الجانب التسويقي الذي غاب عن أذهان القائمين على القناة.

وقال أسامة البهنسي رئيس قطاع القنوات المتخصصة بالتلفزيون المصري لـ”العرب”، إن ماسبيرو زمان تركز بالأساس على المحتويات التي لم يتم بيعها وعرضها بقنوات أخرى، وعلى رأسها البرامج الحوارية والمنوعات، بالإضافة إلى بعض المسلسلات التي يحتفظ بها تراث التلفزيون بجانب الحفلات الفنية النادرة التي تذيع القناة معظمها لأول مرة.

وأضاف أن التركيز يكون بشكل مكثف على المحتويات التي تحمل قيمة ثقافية وفنية كبيرة، مثل حوارات طه حسين وعباس العقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهم، وتلعب على التأثير الثقافي والتوعوي لجيل الشباب الذي لم يلحق بتلك الأجيال ولديه شغف لمشاهدتها والاستماع إليها. وأوضح أن القناة الجديدة لعبت على جوانب غائبة لدى الإعلام المصري والعربي في الوقت الحالي.

وفي ما يتعلق بالمقارنة بين أوضاع المؤسسات الإعلامية في الماضي والحاضر، رأى العديد من الإعلاميين أن الالتزام الصارم بالقواعد المهنية كان مميزا في جميع الأعمال القديمة، وأن تلك النقطة تحديدا كانت جوهر نجاح العمل الإعلامي في الماضي، حيث ابتعد المذيعون عن كافة الصور التي قد تزعج المشاهد ورفع الصوت والمقاطعة غير المبررة للضيوف وبالنضج الإعلامي والثقافي والإنساني الذي يفتقده معظم إعلاميي الحاضر.

اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري ينفض الغبار عن أرشيفه ويحوله إلى مصدر دخل

وقالت ليلى عبدالمجيد أستاذة الإعلام بجامعة القاهرة لـ”العرب”، “كانت هناك في الماضي معايير مهنية وضعها القائمون على ماسبيرو أسفرت عن تميز المحتوى الإعلامي المقدم، كما كانت هناك عملية تدقيق فائقة لاختيار الكوادر الجديدة، وكان التدريب يتم بشكل مستمر داخل مصر وخارجها”.

وأضافت أن تلك العوامل لم ترتبط بالتلفزيون فقط، ولكن بجميع مناحي الحياة الثقافية والفنية، وعلى سبيل المثال فإنه بالرغم من قلة الإمكانيات الفنية والمادية المتاحة تحديدا في مجال الدراما إلا أن ذلك لم يكن عائقا أمام الإبداع، وهو ما يؤكد على أن الرغبة في العمل والإنجاز ليست لها علاقة بتوافر تلك الإمكانيات من عدمه، وهو المبرر الذي يسوقه معظم العاملين في مجال الإعلام الحكومي حاليا لتبرير الفشل.

تميز كيفي

أشارت عبدالمجيد إلى زاوية أخرى سياسية ساهمت في تأثير المحتويات الإعلامية القديمة على عقول المشاهدين، وهي وجود مشروع ورؤية سياسية أثناء فترات التحول نحو بناء الجمهورية الحديثة المستقلة في مصر، وقالت إن “وضوح الرؤية” قاد بالتبعية إلى تقديم رسائل واضحة المعالم غيرت قيم وسياسات الجمهور المتلقي.

وشُيد مبنى ماسبيرو بقرار من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لينطلق البث عام 1960 مع الاحتفال بالعيد الثامن لثورة يوليو. وبالتالي فإن الحس القومي والوطني كان حاضرا وبقوة في غالبية الأعمال المقدمة أثناء تلك الفترة والتي كانت ضمن “حالة الحشد” التي تبحث عنها الدولة المصرية في هذا الوقت واستطاعت أن تجذب الجمهور من خلالها.

إضافة إلى أن تاريخ هذا التميز في ستينات وسبعينات القرن الماضي كان يمثل فترات نهضة بالنسبة إلى الدولة المصرية، كانت هناك حركة مسرحية وسينمائية وأدبية وثقافية (بل وصناعية) نشطة، ولم يكن هذا النشاط مقتصرا فقط على “الكمّ” وإنما ارتبط بالأساس بالجانب الكيفي من خلال الأعمال المتميزة، وهو ما تبدل في الوقت الحالي في ظل كثرة الأعمال المقدمة دون أن يصاحبها تميز مهني يستطيع جذب الجمهور.

نوستالجيا عربية مفرطة تقدس الماضي

وأشار متابعون إلى أن الدعم المقدم من قبل الدولة المصرية للإنتاج الثقافي والفني والدرامي، والذي كان نابعا من سياسة عامة تعتمد على التأميم، أثر في نوعية المنتج المقدم في فترة الستينات وحتى منتصف الثمانينات، وبالتالي فإن غياب هذا الدعم في الوقت الحالي ساهم في تكريس مفهوم الإنتاج التجاري الذي يبحث عن تقديم أعمال تحقق الربح المادي بغض النظر عن الجودة.

لكن، يلفت عبدالحميد إلى نقطة غائبة هنا وهي أن المرحلة الماضية اعتمدت على “الرأي الأوحد” وهو ما يختلف عما نحن عليه الآن، فهناك هوامش ديمقراطية متسعة لم تكن موجودة من قبل، وبالتالي فإن سطوة تلفزيون الحكومة وتأثيره لم تعد كما كانت نتيجة للتنوع في المحتويات المقدمة، وكذلك نتيجة لعدم قدرته على مجاراة الفضائيات الخاصة في عرض جميع وجهات النظر، إلى جانب أنه عجز عن تطوير نفسه، والأمر ذاته انعكس على المثقفين الذين خسر الكثير منهم دعم الدولة نتيجة لآرائهم السياسية المعارضة لها.

وأوضح أن عدم إبراز نماذج ثقافية ونخبوية تستطيع التأثير كما كان الأمر في الماضي يرجع أيضا إلى اختيارات الدولة المصرية للنماذج التي تدعمها، إذ أنها وعلى مدار سنوات طويلة تبنت سياسة الاعتماد على “أهل الثقة” وليس “أهل الكفاءة”، في حين أن هناك العديد من النماذج الشابة التي لديها مواهب إبداعية كبيرة لا يتم الترويج لها لاختلافها مع الحكومة.

7