مارتن شولتز الخليفة الذي يتنبأ به الجميع لأنجيلا ميركل

برلين- هل قرر الشعب الألماني تغيير المستشارة ميركل بعد أن اختار حزبها لثلاث دورات انتخابية متتالية تربعت فيها على قمة الهرم السياسي طيلة اثني عشر عاماً لم تكلّ فيها ولم تتوان بل مازالت تلك المرأة الحديدية عازمة على المنافسة لدورة رابعة يحدوها أمل وثقة كبيرة بالنفس وأحد عشر عاما من النجاحات توجتها بامتيازات لا يستطيع أحد من الألمان ولا حتى من دول الاتحاد الأوروبي أن يدّعيها.
نهاية عصر الأم
في الواقع أنّ ميركل ابنة ألمانيا طبعت مرحلة بأكملها إذ فور سقوط جدار برلين عام 1989 كانت قد انضمت إلى الحزب المسيحي الديمقراطي وعينت في حكومة هلموت كول وزيرة للمرأة والشباب ثم وزيرة للبيئة والسلامة النووية، وبعد هزيمة هلموت كول في الانتخابات البرلمانية عينت ميركل أمينة عامة للحزب ثم زعيمة له، وفي انتخابات عام 2005 فازت بفارق ضئيل على المستشار شرويدر، وبفضل التحالف بين محافظي حزب “الاتحاد المسيحي الديمقراطي” الذي تتزعمه ميركل والحزب “الاشتراكي الديمقراطي” فازت كأول مستشارة في تاريخ ألمانيا، وهي أيضا أول مواطنة من ألمانيا الشرقية تقود البلاد بعد الوحدة، وقد أعيد انتخابها لفترة ثانية عام 2009 ثم لفترة ثالثة عام 2013.
وقد ظلت ميركل منذ توليها منصب المستشارة الألمانية محط أنظار وسائل الإعلام العالمية بسبب شخصيتها المتميزة ومنصبها الكبير في الساحة الدولية ولقّبتها الصحف والمجلات بالعديد من الألقاب منها السيدة الحديدية لمواقفها الصارمة ومنهجها العلمي الجاف مقارنة بالعمل السياسي التقليدي، كما يطلق عليها الألمان لقب “الأم” لما يجدونه فيها من عاطفة وتفاعل مع حاجياتهم الاجتماعية، تلك الحالة الوجدانية العاطفية التي لا توحي بهما صرامة وجدية باديتان على ملامحها.
في العام 2013 اتهمت ميركل أجهزة المخابرات الأميركية بالتنصت على مكالماتها الهاتفية، وقالت في مؤتمر لقادة الدول الأوروبية “إن التجسس بين الأصدقاء أمر غير مقبول”. وتعرف ميركل بأنها قليلة الكلام ولكنها تمطر مساعديها والمسؤولين في حكومتها بالرسائل النصية، إذ كثيرا ما لوحظت وهي عاكفة على هاتفها أثناء المؤتمرات واللقاءات الدولية.
فهي امرأة شغوفة بالتكنولوجيا المتطورة، ونشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، وها هي اليوم تستعد لخوض الانتخابات للمرة الرابعة آملة أن الشعب الألماني لم ينس أياديها البيضاء الخبيرة التي حققت له الاستقرار والرخاء الاقتصادي طيلة فترة رئاستها بعد أن وضعت ألمانيا بين دول العالم الأكثر نجاحاً.
سنوات ميركل الـ12 توشك على الانتهاء والتحضير يجري اليوم لجولة انتخابية جديدة في سبتمبر القادم، ليأتي الألمان بوجه صاعد جديد ويجربوا مراهناتهم على رجل سياسي قرر أن يواجه المستشارة العجوز في فترة تراجع شعبيتها بسبب حملات شنتها عليها أحزاب يمينية وأخرى قومية شوفينية
ولا يكمن تميز ميركل بكونها امرأة متميزة فقط بل تميزت كقائد سياسي يحقق نجاحات جمّة فهي تقود بلادها بخبرة وحكمة وتحافظ لمدة 12 عاماً على موقعها من دون أن تتأثر شعبيتها الواسعة لكونها من الأقلية البروتستانتية والألمانية الشرقية في وسط أكثريته غربية وكاثوليكية بل أضافت لها وإلى تميزها ميزات جديدة.
هل آن الأوان
السؤال الملحّ الآن هو هل آن الأوان لاستبدال وتغيير هذا الوجه النسائي السياسي القيادي المألوف لأكثر من عقد في السياسة الألمانية مع اقتراب سنواتها الـ12 على الانتهاء والتحضير لجولة انتخابية جديدة في سبتمبر القادم، ليأتوا بوجه صاعد جديد ويجربوا مراهناتهم على رجل سياسي قرر أن يواجه المستشارة العجوز في فترة تراجع شعبيتها بسبب حملات شنتها عليها أحزاب يمينية وأخرى قومية شوفينية، وركزت على استقبالها لحوالي مليوني لاجئ من جنسيات شتّى، ومن هو هذا الجريء الذي سيقتحم بقوة الساحة السياسية ويطرح نفسه كأهم المنافسين وأكثرهم حظوة.
تشير المجريات والتوقعات إلى أنّ مارتن شولتز رئيس البرلمان الأوروبي السابق سيكون المرشح الأقوى والمنافس الأهم لأنجيلا ميركل في منصب المستشار الموازي لرئاسة الوزارة في نظام برلماني ديمقراطي إذا تمكن من إزاحتها من المشهد السياسي ليحلّ محلها ويكون خلفاً لها إذا قرر الشعب الألماني أن يتوافق مع الآراء السياسية الصحافية والحزبية المروجة له كبديل قوي يملأ فراغ السلطة السياسية عبر نيله الثقة وقوة تحالفه مع أحزاب أخرى مناوئة لميركل، بحيث تخوله أن يغدو مستشاراً نداً لهذه المرأة الاستثنائية وذلك وفق أنظمة الانتخابات السائدة في البلاد.
|
يقترح رئيس الجمهورية الألمانية مرشحاً أو مرشحة إلى البوندستاغ (البرلمان) طبقاً لما ينص عليه القانون الأساسي، ويقوم النواب بالانتخاب دون مداولة سابقة وببطاقات انتخاب مغطاة لتأمين السرية التامة، ويحقق الفوز المرشح الذي يحصل على الأغلبية المطلقة من أصوات برلمان وصل تعداده إلى 316 نائباً في الدورة التشريعية الـ18، وبعد انتخابه يعين الرئيس الاتحادي المستشار الجديد فيؤدي القسم أمام البوندستاغ وينصرف إلى تشكيل وزارته كما يقترح وزراءه الاتحاديين، ويحقّ للبرلمان حصرياً وفقاً للدستور الألماني سحب الثقة من المستشار لينتخب بأغلبية أعضائه خلفاً له، ثم يلتمس من الرئيس الاتحادي أن يوافق على تعيين الرئيس الجديد ويكون الرئيس ملزماً بأن يستجيب للالتماس.
المرشح الأقوى شولتز الذي أحبط حلمه بأن يصبح لاعب كرة قدم بسبب إصابته ودخوله في أزمة اكتئاب حادة حوّلته إلى مدمن كحول لم يلبث أن تعالج وعاد إلى حياته الطبيعية متابعاً اهتمامه بالعمل السياسي حتى حاز مؤخراً على ترشيح حزبه للمنافسة مع ميركل وحزبها في مواجهة الخريف المقبل.
وصفه جينز زيمرمان أحد النواب الأعضاء في حزبه “بي إس دي” الديمقراطي الاجتماعي الألماني بالقول “إن شولتز ليس معروفاً بعد بشكل جيد لكنه سيكون بداية جيدة للحزب”. ولد شولتز عام 1955 في بلدة فورسلن في الشمال الغربي لألمانيا القريبة من الحدود البلجيكية والهولندية، وقد أسمعه جده قصصاً كثيرة عن الحرب العالمية الأولى التي قاتل فيها البلجيكيين والهولنديين. دفعته تلك الثقافة ليفتتح مكتبة لبيع الكتب في بلدته في العام 1982 وليغدو صاحب متجر لمدة 12 عاماً من دون أن يشغله متجره عن متابعة الاهتمام بالسياسة منخرطاً في صفوف صغار حزبه الـ”بي إس دي” في يسار الوسط.
جد شولتز أسمعه قصصا كثيرة عن الحرب العالمية الأولى التي قاتل فيها البلجيكيين والهولنديين. وقد دفعته تلك الثقافة ليفتتح مكتبة لبيع الكتب في بلدته في العام 1982 وليغدو صاحب متجر لمدة 12 عاما، من دون أن يشغله متجره عن متابعة الاهتمام بالسياسة
أصبح شولتز عمدة فورسلن كأصغر سياسي في شمال الراين، وفي أواسط التسعينات من القرن العشرين انتخب نائباً في البرلمان الأوروبي وتدرّج حتى احتل منصب رئيس البرلمان الأوروبي في 2012 ليعلن الحزب الاشتراكي الألماني ترشيحه لشولتز الرئيس السابق للبرلمان الأوروبي لمنصب المستشار في مواجهة الرئيسة الحالية المعروفة بجبروتها وصلابتها ومبدئيتها، مما يجعل فرص المنافسة معها حالة كتم الأنفاس وشدّ الأعصاب لأنه في حال تمكنه من هزيمة مستشارة لها مثل هذه الخبرة والصلابة والشعبية، مثل ميركل، فإن هذا النصر سيسجّل له كنقاط قوة إضافية تجعل المراهنين على هذه المواجهة أكثر حماسة وتحسباً لنتائج هذه المعركة وأكثر طموحاً بالوصول إلى حالة استثنائية تكسر استثنائية ميركل لتصب في استثنائية جديدة.
انتقادات حادة وتأييد
تعرّض شولتز في آخر أيامه كرئيس للبرلمان الأوروبي، قبل انتخاب أنطونيو ثاياني خلفاً له يوم الثلاثاء في مستهل الأسبوع الثالث من شهر يناير 2017 إلى انتقاد حاد من قبل مجموعة من النواب في البرلمان الأوروبي بسبب تصريحات أدلى بها خلال لقائه رئيس الكنيست الإسرائيلي في بوستدام بألمانيا والتي أعلن فيها عن معارضته سياسة الاتحاد الأوروبي تسمية مصدر منتجات المستوطنات التي تدخل السوق الأوروبي.
|
اعتبر النواب في الرسالة الموقف الذي أعلنه شولتز أمام الكنيست الإسرائيلي تنصّلاً من التزامه في الدفاع عن الموقف الأوروبي. والحال أنه يترأس البرلمان ويتوجب عليه الالتزام بالدفاع عن موقف أوروبي حظي بإجماع المفوضية والبرلمان والمجلس الوزاري لدول الاتحاد، وكانت المفوضية الأوروبية طالبت بشكل رسمي في شهر نوفمبر 2016 أجهزة الجمارك لدول الاتحاد الثماني والعشرين إخضاع منتجات المستوطنات الإسرائيلية لإجراءات الرسوم وحرمانها من أيّ امتياز جمركي، استناداً إلى قرار رفض الاتحاد الأوروبي من الناحيتين السياسية والقانونية الاعتراف بسيادة إسرائيل على الأراضي العربية المحتلة.
وأوضح النواب الأوروبيون في الرسالة إلى شولتز أن 550 شخصية إسرائيلية ساندت قرار المفوضية منهم حامل جائزة نوبل للاقتصاد الإسرائيلي دانيال كاهنمان. وأكدوا أن الاحتلال الإسرائيلي يكلف الفلسطينيين خسارة 58 بالمئة من الناتج المحلي لأن المستوطنين يستغلون الأرض والموارد الطبيعية الأخرى التابعة للفلسطينيين.
وكان مارتن شولتز نفسه قد سأل النواب في الكنيست الإسرائيلي في شهر فبراير من العام الماضي كيف يعقل أن يستهلك الإسرائيلي في كل يوم 70 مترا مكعباً من المياه، بينما يصل المعدل إلى 17 بالنسبة إلى الفلسطيني. أما رئيس حزب الـ”بي إس دي” سيغمار غابرييل فقد قال للصحافيين في برلين، بعد إعلانه أنه لن يترشح للمنصب بسبب تدني شعبيته، إن “مارتن شولتز سيكون المرشح لمنصب المستشارية”، وأضاف أنه تم اختياره “بإجماع” قيادة الحزب قبل الانتخابات التمهيدية المقررة.
ومن المتوقع أن هذا الترشح لمنصب المستشارية، بغض النظر عن النتيجة النهائية، سيحدث تغييراً كبيراً في حياة هذا السياسي الأوروبي، ويضعه في واجهة الحدث السياسي ويغدو من أهم الشخصيات السياسية الألمانية والأوروبية على حدّ سواء. إلا أن التغيير الكبير سيحدث فيما لو نجح شولتز في الإطاحة بميركل التي باتت توصف في العالم اليوم بأنها، هي، وليس الرئيس الأميركي ترامب قائدة العالم الحر.