ماذا وراء قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي في العراق

انتفاضة تشرين فتحت صفحة جديدة في وعي الجماهير وتم إسقاط الهويات الطائفية، إضافة إلى نمو وعي عمالي مطرد.
الأحد 2024/05/26
حملة سياسية تحت مظلة أخلاقية

يحمل إقرار قانون “تجريم المثليين” في البرلمان العراقي تحت اسم قانون “مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي”، الكثير من الدلالات، ويخفي أجندة رعب عنوانها عراق جديد بنظام استبداد قروسطي.

علينا النظر إلى قانون “تجريم المثليين” ضمن رزمة متكاملة شرعت بها الطبقة الإسلامية وميليشياتها الحاكمة منذ العام الماضي، كجزء من مساعي حثيثة لترسيخ سلطتها، بعد الضربة التي وجهتها لها انتفاضة تشرين.

قامت سلطة الميليشيات بتشريع هذه الرزمة، وأصدرت عددا من القرارات والقوانين ومشاريع القوانين؛ منها اعتقال أيّ شخص بتهمة ترويج أو نشر فيديوهات ما يسمى بـ”المحتوى الهابط”، واعتماد بورصة الطبقة الحاكمة تجاه معارضيها ومخالفيها السياسيين كمعيار يحدد هبوط هذا المحتوى أو صعوده.

وتم طرح مسودة قانون الحريات النقابية في البرلمان التي تفوض الحكومة التدخل بشؤون العمال وفرض نقابات صفراء موالية لها ولسياستها الاقتصادية التابعة للمؤسسات للرأسمالية العالمية، وأيضاً طرح مشروع قانون حرية التعبير لمصادرة حق التعبير كحق من حقوق الإنسان.

◄ المنطق الذي يحرك القوى والأحزاب الإسلامية سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، هو نفس المنطق الذي كانت تتبناه الكنيسة في محاربتها للعلم والمنطق العلمي

ولاحقا جاء قانون “تجريم المثلية” أو ما سمّي “قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي”، الذي يخوّل الحكم على أيّ شخص بالسجن مدة تصل إلى خمسة عشر عاماً بتهمة المثلية.

ولا بد من التنويه هنا، إلى أنَّ البرلمان العراقي وبخلاف كل برلمانات العالم، فهو يشرع غالبية القوانين، ويرسلها إلى مجلس القضاء الأعلى أو رئاسة الجمهورية من أجل المصادقة عليها وإلزام الحكومة بتنفيذها، في حين أنَّ المعتاد في الديمقراطيات العريقة هو قيام الحكومة بإرسال مشاريع القوانين إلى البرلمان للمصادقة عليها.

إنَّ السبب في ذلك هو أنَّ البرلمان تسيطر عليه الأحزاب والقوى الإسلامية وهي من تسن القوانين إذا ما تعذر عليها تمريرها عبر الحكومة.

تزامن هذا القانون مع إعلان الحكومة ما يسمى بـ”عيد الغدير” عند الشيعة عطلة رسمية حكومية. والمشروعان هما للتيار الصدري، الذي ترك البرلمان، بعد أن مني مشروعه في تشكيل حكومة الأغلبية بالهزيمة، سواء عبر حقه القانوني لحصوله على أغلبية مقاعد البرلمان الذي كان 76 مقعدا من أصل 329 مقعدا، أو عبر محاولاته الانقلابية الفاشلة في احتلال البرلمان، واقتحام مبنى المحكمة الاتحادية التي أطاحت به عبر تعويم موضوعة “الثلث المعطل” في تشكيل حكومته في البرلمان.

اليوم يحاول جناح من الإطار التنسيقي، الذي يمثّل مجموعة من الأحزاب الإسلامية والميليشيات التي تشكل حكومة محمد شياع السوداني، استمالة التيار الصدري، وكسبه، عبر المصادقة على مشروع قانون “مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي” وعطلة “يوم الغدير”، من أجل إعادة صياغة معادلة سياسية جديدة استعدادا للمرحلة المقبلة، وخاصة بعد تداعيات حرب غزة على الأطراف المشكلة للحكومة بما فيها الإطار التنسيقي، ودخول العراق في مرحلة جديدة من الاتفاقات الاقتصادية والسياسية مع الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج.

ويحاول التيار الصدري استرداد زمام المبادرة والعودة إلى المشهد بقيافة جديدة تنسي أتباعه هزيمتهم السياسية، وتطمس ذاكرة ذوي ضحايا أكتوبر الذين قتلتهم ميليشيات الصدر (القبعات الزرق) في ساحات الانتفاضة في الناصرية والنجف والبصرة وكربلاء وبغداد، بعد الفشل في ركوب موجة الانتفاضة أو احتوائها، من أجل تنصيب مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء.

وتغاضى الكاظمي عن اقتحام عناصر التيار الصدري للمنطقة الخضراء والبرلمان وتطويق المحكمة الاتحادية، في حين قتلت القوات الأمنية بالتنسيق والتعاون مع الميليشيات، العشرات من المتظاهرين أيام انتفاضة أكتوبر 20219 لمجرد محاولة عبورهم الجسور، للتجمع أمام المنطقة الخضراء، تعبيرا عن احتجاجاتهم ضد الظلم والفساد والبطالة.

◄ انتفاضة تشرين أربكت الطبقة السياسية
انتفاضة تشرين أربكت الطبقة السياسية

ومثلما حدث مع ميليشياته المتمثلة في جيش المهدي عندما فاحت رائحة جرائمها الطائفية والقتل على الهوية بين عامي 2005 – 2008، فاضطر الصدر إلى تغيير اسمها إلى ميليشيات “سرايا السلام”، نراه يسعى للجمع بين المشروع الطائفي من جهة والمشروع القومي المحلي (الوطني)، وعاد عبر مشروع سياسي جديد سماه “التيار الوطني الشيعي”. وبمشروعه هذا، سدد التيار الصدري ضربة قاضية للأوهام التي كانت تبرّئه من الطائفية، وتجزم بأنَّ مشروعه (وطني خالص).

وبقدر ما يمثل هذا المشروع بالنسبة إلى التيار الصدري مسعى للتعاطي مع المستجدات الحاصلة في المنطقة، فإنَّه وبالقدر ذاته يمثل محاولة لإعادة ترتيب أوراق الإسلام السياسي وإعادة إنتاجه بشكل عام، وترتيب أوراق الطائفية بشكل خاص، والنفخ في روحها التي أزهقتها انتفاضة أكتوبر – تشرين 2019، لجمعها بيده.

والمفارقة المضحكة، أنَّ “الطائفية” و”الوطنية” هما نقيضان، ولا يمكن الجمع بينهما، إلا أنه في الحالة الصدرية يمكن تبنيهما، لسحب البساط من تحت أقدام الموالين لإيران الرافعين لشعار الدفاع عن “مظلومية الشيعة”، ومن جهة أخرى التناغم مع ما يذهب إليه العراق أو تدفع به الولايات المتحدة للعودة إلى “الحضن” العربي مضافا له “الحضن” التركي في المنطقة.

ويعتبر مشروع التيار الصدري المناهض لإيران، أقرب إلى أحد أجنحة الإطار التنسيقي الذي يتصاعد فيه دخان البنادق، ويمثله المالكي والخزعلي والعامري، بعيدا عن كل الأوهام التي ينثرها هنا وهناك، التي تتمثل بتعالي صوت بكائه وصرخاته على أهالي غزة.

وقد بات الجناح الثلاثي المشار إليه (المالكي والخزعلي والعامري) يضيق ذرعا من تصرفات الجناح الذي ربط مصيره مع مصير المشروع القومي الإيراني الذي يختبئ تحت عناوين وشعارات تحرير فلسطين والمقاومة والممانعة والشيطان الأكبر والاستكبار العالمي.

وبمباركة الثلاثي وموافقته، ذهب السوداني إلى واشنطن وعقد الاتفاقيات الاقتصادية، بما فيها العقد الذي أبرمه لشراء السلاح الأميركي بقيمة 700 مليون دولار، مما يعني زيادة عدد الخبراء العسكريين والمستشارين الأميركيين في العراق، في الوقت الذي تم التطبيل فيه إلى أنَّ الزيارة ستؤدي إلى إنهاء الوجود الأميركي في العراق.

وليس هذا فحسب بل عقد السوداني اتفاقات اقتصادية إستراتيجية في مجال الطاقة مع الجانب الأميركي، والأدهى من ذلك أشار البيان الختامي المشترك إلى تأكيد إتمام ربط العراق بشبكات الكهرباء بالخليج والأردن دون الإشارة لا من بعيد ولا من قريب إلى إيران.

ولم يقف عند هذا الحد بل إن واشنطن أوعزت لتركيا بتقوية نفوذها الاقتصادي والسياسي في العراق، وأخذ زمام المبادرة بدلاً منها، فأميركا باتت مشغولة بغزة وأوكرانيا والتمدد الصيني عبر المحيط الهادئ. كما أبرمت العشرات من الاتفاقيات الاقتصادية بين العراق وتركيا، وأبرزها ما سمّي بطريق التنمية، الذي يعني بالأخير تقوية النفوذ لكل القوى الإقليمية المنافسة لإيران في منطقة تعتبرها حديقة خلفية لها.

إن الطبقة البرجوازية الحاكمة التي يمثلها اليوم الإطار التنسيقي غير منسجمة كي تؤهلها بممارسة القمع المطلق، وبناء نظام استبدادي بشكل ديمقراطي لا يتعدى صناديق الانتخابات، وهي من تغلقها وبعد ذلك تقوم بفتحها، ومن يعترض هناك قوانين تقتص منه.

من جهة أخرى إن انتفاضة تشرين فتحت صفحة جديدة في وعي الجماهير بشكل عام وهو وعي تحرري، وتم إسقاط الهويات الطائفية، إضافة إلى نمو وعي عمالي مطرد، فلذلك نشهد تاريخا جديدا من حركات احتجاجية في قطاعات عمالية مختلفة.

لقد ذكرنا الأسباب الخفية وراء إصدار قانون “مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي”، وذكرنا أيضا أنه جزء من رزمة متكاملة من القرارات والقوانين والسلوك للطبقة الحاكمة من أجل ترسيخ سلطة استبدادية قروسطية دشنتها منذ أكثر من عام.

وقد تزامن صدور القانون المذكور مع اغتيال السيدة المعروفة باسم (أم فهد)، الناشطة على شبكات التواصل الاجتماعي، واللغط الذي دار حول اغتيالها.

◄ البرلمان العراقي وبخلاف كل برلمانات العالم، فهو يشرع غالبية القوانين، ويرسلها إلى مجلس القضاء الأعلى أو رئاسة الجمهورية من أجل المصادقة عليها وإلزام الحكومة بتنفيذها

إنَّ المنطق الذي يحرك القوى والأحزاب الإسلامية سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، هو نفس المنطق الذي كانت تتبناه الكنيسة في محاربتها للعلم والمنطق العلمي. وهي نفس المنهجية التي شنت بموجبها الحرب على كوبرنيكوس وغاليليو، لنفي ما ذهبا إليه بأنَّ الأرض كروية. وكما قال ماركس إنَّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، الأول بشكل تراجيدي، والثاني بشكل كوميدي. وبالفعل يتكرر التاريخ على الساحة الاجتماعية والسياسية العراقية بشكل كوميدي مع مسحة سوداوية.

المثلية ليست خيارا أخلاقيا ولا اجتماعيا ولا سياسيا، أي بمعنى آخر، المثلية ليست خيار الإنسان وإنما هي أمر خارج عن إرادته، مثلما يولد الإنسان بلونه وجلده، يولد معه الميل الجنسي.

ولا ندري كيف ستتصرف الحكومة العراقية، إذا مرر القانون بشكل رسمي، إزاء زيارة رئيس المسؤولين الأجانب الذين يجاهرون بمثليتهم، فهل ستعتقلهم شرطة الآداب في المطار، أم أن المصلحة الوطنية والقومية العليا للعراق تطبق فتوى عفا الله عما سلف، كما اقتضت المصلحة الوطنية في قتل المئات من المتظاهرين في ساحات الانتفاضة لأنهم طالبوا بوطن خال من الظلم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ووطن يتمتع فيه الإنسان بقيمته الإنسانية.

علينا النظر إلى قصة اغتيال السيدة (أم فهد) وطريقة تصويرها في الطب العدلي، ونشر صورة الجثة وهي عارية على شبكات التواصل الاجتماعي. فبقدر ما يمثل ذاك جزءا من سياسة إشغال المجتمع بقضايا ثانوية، وتقوم بالتغطية والتعمية عن كل جرائم الفساد السياسي والمالي والإداري من قبل هذه الأحزاب والقوى السياسية التي فرضت سلطتها بحراب الغزو والاحتلال، بنفس القدر تعكس حالة الشذوذ الأخلاقي لهذه الطبقة الحاكمة.

6