ماتيو رينزي رئيس وزراء إيطاليا يتجرّع هزيمته "الخمس نجوم"

باريس - استقال رئيس الوزراء الإيطالي. لم تكن هذه البداية ولن تكون النهاية بالطبع. السياسي الأربعيني المحب لأوروبا والمؤمن بمستقبلها الإصلاحي ترك الكرسي فارغا لليمين. خمس نجوم ترقص فرحة بالخسارة والاستقالة التي تمهد لخروج روما من الاتحاد الأوروبي الذي بات يترنح.
خمس نجوم ليست فرقة مسرحية بل هي رمز اليمين الشعبوي الإيطالي اليوم. رينزي يرفع الراية البيضاء متحملاً المسؤولية وحده في خطاب قصير قبيل تقديم الاستقالة رسمياً.
انتصار "لا"
فوز ساحق ضد الإصلاحات الدستورية التي نادى بها رئيس حزب الديمقراطية الإيطالي. أعلنها ضرورة لانتقال إيطاليا من الحالة الغارقة بها كعبء على الاتحاد الأوروبي إلى دولة أكثر فاعلية. دولة بلا عجز في الموازنة العامة يصل إلى أكثر من 130 بالمئة من الناتج الإجمالي العام.
صكوك دين عام فاسدة تصل إلى أكثر من 300 مليار يورو. دولة قادرة على إعادة الحياة الاقتصادية المتهاوية. إصلاحات تطال دور مجلس الشيوخ وتعطي صلاحيات أكبر للبرلمان في سنّ واتخاذ القرارات ووضع القوانين. إصلاحات قدمها رينزي لتكون فرصة إيطاليا للبقاء ضمن منطقة اليورو ولتبدأ مرحلة إعادة البناء الاقتصادي من جديد.
عقب انتصار “لا” للإصلاحات بات اليأس جلياً في كلمات رينزي الذي قال “لم أكن أعرف أنهم يكرهونني إلى هذا الحد”. ناشد بعدها خصومه السياسيين إلى طرح مقترحات بناءة لحل الأزمة السياسية التي تعاني منها البلاد.
تحدث إلى مؤيديه “سنجد طريقة كي لا يضيع ما قدمتموه من خير”، وبقي مصراً على وجود القوة الفاعلة على الجانب الذي يراه إيجابياً، فقال “هناك عدة ملايين من الإيطاليين يؤمنون بنوع آخر من السياسية. رأيناهم في انتخابات سابقة. سنراهم في المستقبل”.
الأقوال تبقى محض كلام يثير الشجون. حركة الخمس نجوم أعلنت بلسان رئيسها أنها سوف تختار مرشحها لرئاسة الوزراء قبل الانتخابات التي قد تجرى في مطلع العام القادم. سيتم انتقاء مرشح اليمين الشعبوي عبر استطلاع رأي عام على الإنترنت. يبدو اليمين أكثر ثقة في الجمهور من سياسيي تيارات الوسط والأحزاب الاجتماعية في أوروبا.
المطالبات تتصاعد لألمانيا لتغيير سياساتها المالية المتقشفة كي تكون الرافعة المالية لأوروبا. ويأتي الرد الألماني جافا كعادة الجرمانيين "لا يمكن الحديث عن تغيير في السياسات المالية". إذن هو تحول جماهيري عارم باتجاه التخلص من الوصاية الألمانية بالعودة إلى الحركة الوطنية بديلا عن الحركة الأوروبية
غالبية الأحزاب اليمينية تعهد إلى الاستطلاعات والاستفتاءات لتقول للناس جميعاً والعالم بأنها ديمقراطية وتنال ما تريد بالديمقراطية كما حدث في بريطانيا. الشعب يريد الخروج من الاتحاد الأوروبي لا شأن لنا بما يجري. وكما كاد يحدث في النمسا حيث صعد اليمين وكاد يطيح بمرشح الخضر للرئاسة.
اليمين يتمدد
الواقع يقول بأن الضربات تتوالى بشكل متسارع على الاتحاد الأوروبي. خروج بريطانيا، تزايد الموجة الشعبوية قوة وجسارة، فرنسا تستعد لانتخابات رئاسية رشح لها اليمين فرنسوا فيون، وتتقدم مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية.
قبل الرئاسة، هناك حيث لا ينظر الكثير من السياسيين، صعد اليمين في البلديات والمجالس المحلية. تقدم اليمين في أوروبا كان آخر ضحاياه رئيس الوزراء الإيطالي رينزي الذي سلم رئيس بلاده سيرجيو ماتاريلا استقالته مساء الأربعاء الماضي.
أوروبا اليوم على بوابات مفتوحة من الخيارات. القارة العجوز تعيش اليوم أزمة عميقة. عام 2016 الذي شارف على النهاية حمل الكثير من التغييرات.
بات واضحا تقدم الحركات الشعبوية اليمينية الرافضة لمنطقة اليورو والمضادة للاتحاد الأوروبي كحالة حركة البديل من أجل ألمانيا، والخمس نجوم الإيطالية والجبهة الوطنية الفرنسية وحركة اليمين النمساوي وكذلك اليمين الهولندي. بعيدا عن أوروبا في أميركا صعد دونالد ترامب.
لكن كيف؟ ولماذا؟ هل فعلا أوروبا على المحك؟ هل اليمين هو مصير العالم اليوم؟ التطرف اليميني ضرب البلاد المتخلفة قبل غيرها، فهل يمكن وصف أنظمة الحكم في سوريا ولبنان والعراق ومصر بالأنظمة الديمقراطية أو الأنظمة الوسطية؟ هل يمكن اعتبار إيران ساحة الاعتدال؟ إذن الحركة عالمية، ولكن لماذا العالم يسير بهذا الاتجاه؟
قبل الخوض في محاولات الإجابة على هذه الأسئلة، لماذا لم يتمكّن اليمين من التغلّب على الوسطية في النمسا بشكل نهائي؟ لماذا فشل إلى اليوم في الصعود إلى سدة الحكم في ألمانيا؟ هل السبب ماضي هذين البلدين مع اليمين الذي جرهما إلى حرب لم تبق ولم تذر؟ هل من تشابه في صعود النازية وصعود اليمين الأوروبي والأميركي اليوم؟
يقول الاقتصادي كارل بولايني في كتابه “التحول الكبير”، وكلام مختصره “صعود اليمين الفاشي إلى الحكم في أربعينات القرن الماضي، كان عبر آليات انتخابية شعبية عقب أزمة مالية خانقة دفعت بحكومات الوسط إلى الخروج من اللعبة السياسية. فتح الفراغ السياسي الطريق أمام اليمين النازي الذي قدم سياسات إعادة إحياء اقتصادية فعالة نقلت بلادا برمتها من حالات الدين العام إلى نمو متسارع. اعتمد اليمين على تطوير وتنمية العملية التصنيعية العسكرية. تلك العملية أرادت لها كحال الثورة الصناعية الأولى فرصة لمزيد من الكسب لذا بدأت الحملة الاستعمارية للعالم بالنسبة إلى الأخيرة. لكن اليمين الفاشي النازي أنتج حركة توسع داخل أوروبا فكانت الحرب العالمية الثانية”.
ما أشبه اليوم بالأمس. أزمة اليونان المالية ومن ثم أزمة إيطاليا المالية. مطالبات متكررة لألمانيا بتغيير سياساتها المالية المتقشفة لتكون الرافعة المالية لأوروبا. رد ألماني جاف كعادة الجرمانيين “لا يمكن الحديث عن تغيير في السياسات المالية”. إذن هو تحول جماهيري عارم باتجاه التخلص من الوصاية الألمانية. العودة إلى الحركة الوطنية بديلا عن الحركة الأوروبية.
|
فرنسا على الطريق
تباين التصريحات يظهر المعسكرين بشكل جلي. أنجيلا ميركل حزينة لفشل الانتخابات الإصلاحية الإيطالية، وكانت تدعم موقف إيطاليا الإصلاحي. فرح عارم يضرب اليمين الألماني وحركة البديل لأجل ألمانيا تعلنها رسمياً “ما حدث أمر رائع، بداية الطريق لخروج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي وهذا ما نريد”.
لن تكون النهاية. المرشح اليميني الأوفر حظا في فرنسا فرنسوا فيون أعلن أنه سيجري العديد من الاستفتاءات في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية. إذن هي ذات الطريق، على الجميع ولوجها وإن كانت النهايات واضحة. الجميع يسير وراء اليمين بداية جديدة، من الأميركيين الذين قرروا انتخاب رئيس وصفوه بأنفسهم بأنه أقرب للجنون من العقل، وليس انتهاء بالإطاحة برئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي، الذي كان رئيس بلدية فلورنسا إحدى أولى المدن التي أسست للبنوك في العالم وكانت رائدة هذه الصناعة المالية لسنوات طويلة.
فلورنسا التي ولد فيها رينزي عام 1975، وحصل على شهادة بكالوريوس في القانون من جامعتها، وفيها انضم لحزب الشعب الديمقراطي ليصبح ممثلا للحزب في مقاطعته بعد ثلاث سنوات، ولينتخب رئيسا لمقاطعة فلورنسا بعد فوزه بنسبة 59 بالمئة في الانتخابات.
الطبقة السياسية الأوروبية المجهولة
بعد سنوات خمس على رئاسة المقاطعة ينتقل رينزي إلى الحزب الديمقراطي مرشحاً نفسه لمنصب عمدة مدينة فلورنسا. فاز بالمنصب. انتخب أمينا عاما للحزب الديمقراطي الإيطالي عام 2013. عام 2014 كلفه الرئيس جورجو نابوليتانو بتشكيل حكومة جديدة خلفا لإنريكو ليتا. كان عمره آنذاك 39 عاماً ليصبح أصغر رؤساء مجلس الوزراء سنا في تاريخ ما بعد وحدة إيطاليا. الوحيد الذي جاء إلى هذا المنصب من عمدة بلدية لا من عضوية مجلس نواب.
حركة الخمس نجوم تعلن بلسان رئيسها أنها سوف تختار مرشحها لرئاسة الوزراء قبل الانتخابات التي قد تجرى في مطلع العام القادم. وسيتم انتقاء مرشح اليمين الشعبوي عبر استطلاع رأي عام على الإنترنت، ليبدو اليمين أكثر ثقة بالجمهور من سياسيي تيارات الوسط والأحزاب الاجتماعية في أوروبا
حقق رينزي بعض الإنجازات أثناء شغله منصب عمدة فلورنسا. قام بتنصيب أكثر من 500 نقطة إنترنت لاسكلي في المدينة. زاد الدعم البلدي في مجالات الرفاه الاجتماعي والمدارس العامة. اعتمد مخططا عمرانيا لمدينة فلورنسا يمنع إنشاء مبان جديدة ويفرض إعادة استخدام وترميم المباني الأثرية. اتخذ قرارات تمنع مرور السيارات في بعض القطاعات من المدينة وفي بعضها يسمح فقط بالسيارات الكهربائية.
طالب رينزي مرارا بتحسين الطبقة السياسية الإيطالية. أعلن في العديد من المناسبات أن الجيل الذي رافق فترة سيلفيو برلسكوني عليه التوقف والتراجع عن العمل السياسي. تصريحاته ونشاطاته السياسية وضعته في موقع النقد من قبل أعضاء في حزبه. لكنه استمر في العمل إلى أن قرر الخوض في استفتاء الإصلاحات الدستورية الذي أودى به إلى الاستقالة.
لن يكون رينزي إلا بداية السقوط لما تبقى من الحكومات الوسطية أو الاجتماعية في أوروبا. حركة العجلة الاجتماعية في العالم الغربي على اتساعه وعمومه باتت واضحة. التخلص من الحكومات الحالية والمتهمة بالتحكم في الإعلام، وقبول الأوضاع الاقتصادية المزرية، وعدم الجدية بالتعامل مع مسألة اللاجئين ومسألة الإرهاب. كل هذه المبررات إضافة إلى نموّ حالة من العبثية بين الجماهير الأوروبية نتيجة وصول المنظومة المالية والاقتصادية والإنسانية والسياسية الراهنة إلى حدها النهائي في العطاء.
يبدو أن البشرية باتت تريد المزيد أو العودة إلى الخراب. الانتظار في حالة المراوحة في المكان لا تتناسب والطبيعة البشرية. طبيعة تنزع للحركة والتقدم وإن كان إلى الخلف. لا يمكن للغرب أن يبقى في مرحلة ما بعد الديمقراطية، عليه أن يتقدم وإن كان باتجاه فاشية جديدة ومن ثم يعيد التجربة لينتقل إلى مرحلة ثانية. تبدو صيرورة الحركة الإنسانية الاجتماعية مظلمة في بعض مراحلها ولكن الظلمة حاجة لبيان النور.