مئتا يوم على الطوفان

لقد دعا نبي الله نوح على قومه فأجاب رب العالمين بطوفان لا يذر، ليَنْجُوَ هو ومن معه في الفلك ويَهْلَكَ قومُه، أما بالنسبة إلى طوفان حركة حماس فقد دخل يومه المئتين ولا يزال مستمرا، وبرغم الدعوات المتكررة، لم يهلك الله إسرائيل وهو على كل شيء قدير. لفهم هذه المعادلة يجب أن نقترب أكثر من تقييم ما سبق من أحداث للوقوف على ما يمكن أن تؤدي إليه في قادم الأيام.
فيما يحصل على الأرض هناك روايتان؛ الأولى أن المقاومة لا تزال قوية وأن جيش الاحتلال لم يستطع تحقيق أي من أهدافه، وهذه رواية حركة حماس التي نختلف معها ليس لاستعمالها المقاومة المسجلة كوسيلة لتحرير فلسطين، فالمقاومة المسلحة حق أصيل كفلته كل الشرائع، ولكن نختلف معها في شكل وتوقيت ما قامت به وممارستها الخاطئة خارج إطار أية إستراتيجية وطنية يتوافق عليها الكل الفلسطيني وبقرار فلسطيني مستقل. تلك الرواية التي تدعمها قناة الجزيرة ومن يساندها من محور المقاومة وفلول الإخوان المسلمين الذين يرون في حركة حماس طوق نجاة لما يعانونه من فشل.
◄ إسرائيل تحاول أن تبقي على حركة حماس قوية إعلامياً وتستخدم في ذلك عددا لا يستهان به من المحللين الذين يروجون أن المقاومة قوية وأن الجيش الإسرائيلي يُمْنى بخسائر فادحة
والرواية الثانية هي رواية الاحتلال الإسرائيلي الفاشي المجرم والذي يقول إنه يقترب أكثر فأكثر من النصر ولم يبق له سوى الهجوم على رفح للقضاء على آخر معقل لحماس، وهذه الرواية تدعمها وتروج لها قوى الشر في هذا العالم بالرغم من معارضتها العلنية لها! وعلى رأسها الولايات المتحدة ومن يواليها من دول استعمارية ترى في إسرائيل استمرارية لكينونتها وحنينها لماضيها الاستعماري وفرصة لها للتخلص من مشاكلها الداخلية الناتجة عن عنصريتها المفرطة التي أصبحت غير قادرة على السيطرة عليها.
فبالنسبة إلى الرواية الأولى، تنطلق حركة حماس وقناة الجزيرة من منطلق أن الكفة حتى الآن تميل لصالح المقاومة التي لا تزال تدك العدو وتثخن فيه الجراح عبر عمليات نوعية من قنص وتفخيخ وكمائن وقصف بقذائف الهاون والصواريخ، وهو ما يثبت أنها لا تزال قادرة على مقارعة الاحتلال وتعتمد على أن الرأي العام العربي والدولي سيكون له دور حاسم في تغيير المعادلة إذا ما ارتفع عدد الضحايا وسيرغم إسرائيل في النهاية على الرضوخ “لشروط المقاومة”، لتعلن انتصارها!
ولكن يُعاب على هذه الرواية أنها لا تأخذ بالحسبان الدمار الهائل الذي جرى لقطاع غزة والعدد الكبير من الشهداء والجرحى والمفقودين، واحتلال إسرائيل لمعظم قطاع غزة وفرض سيطرة كاملة على مفاصل الحياة في هذه البقعة الجغرافية من أرض دولة فلسطين، وهنا يطرح السؤال الأهم وهو ماذا حققت حماس من أهدافها المعلنة من هذا الطوفان بعد مئتي يوم؟، وليس السؤال حول ما فشل الاحتلال الإسرائيلي في تحقيقه كما تروج حركة حماس وقناة الجزيرة ومحور ما يسمى المقاومة، كما لو أن إسرائيل هي التي قامت يوم 7 أكتوبر بشن الحرب على قطاع غزة وليس العكس!
من الواضح أن حركة حماس لم تحقق أيّا من أهدافها “المعلنة” بحسب بيان محمد الضيف حتى الآن، بل تعقدت الأمور ليصبح من المستحيل تحقيق حتى ولو جزء من تلك الأهداف حسب المعطيات الحالية، وأصبح كل ما تسعى إليه الآن من خلال المفاوضات “العبثية” غير المباشرة عبر الوسطاء والتي تطيل أمد الحرب، هو أن ترضخ إسرائيل لشروطها، وأن تنسحب من قطاع غزة وتعيد الأمور لما كانت عليه قبل “الطوفان”، وتأمين استمرار حكمها للقطاع وحصولها على حصة من إعادة الإعمار، وتأمين قادتها ومنتسبيها الذين “بقوا في غزة” في المرحلة القادمة، وكذلك الإبقاء على دور الوسطاء كدور أساسي وحليف إستراتيجي لها في قادم الأيام للاستمرار في محاولة انتزاع التمثيل الفلسطيني من منظمة التحرير والذي بلا شك ستفشل فيه هي ومن يتحالف معها من أجل ذلك كما فشل الكثيرون قبلها.
أما بالنسبة إلى الرواية الثانية، فإن إسرائيل تدعي أنها قضت على عدد كبير من كتائب القسام في مناطق القطاع المختلفة ولم تتبق لها سوى الكتائب الموجودة في رفح، وأنها قد دمرت جزءا كبيرا من الأنفاق التي قدرتها قبل الحرب بـ350 كلم وارتفعت تقديراتها الآن لأكثر من 700 كلم وكل يوم في ازدياد! كما استطاعت خفض إطلاق الصواريخ إلى حده الأدنى والذي لا يكاد يذكر، وتدعي أنها ستستمر في حربها لتحرير الرهائن وتحقيق الانتصار الكامل على حركة حماس.
ولكن يشوب هذه الرواية أيضاً، أن إسرائيل لم تدخل الحرب من أجل القضاء على حماس كما حددت في أهدافها المعلنة، ولكنها دخلت هذه الحرب لتدمير قطاع غزة وجعله غير قابل للحياة وتهجير سكانه وفق مخطط معد سلفاً وهو ما تقوم به من البداية وتؤكده الأعداد الهائلة من الشهداء والجرحى والمفقودين من المدنيين، وتؤكده أيضا أعداد الفلسطينيين الذين غادروا قطاع غزة وقد وصل عددهم في روايات مختلفة ما بين 100 و250 ألفا بين جرحى، وحملة جنسيات أخرى، وغيرها من مسوغات الخروج من القطاع ودفعهم مبالغ طائلة من أجل ذلك، وقد نجحت إسرائيل حتى الآن في هذا، وتتجاوز مرة تلو الأخرى الضغوط الدولية الشديدة بمساعدة إيران من جهة وحركة حماس من جهة أخرى.
وعليه أرى أن إسرائيل تحاول أن تبقي على حركة حماس قوية إعلامياً وتستخدم في ذلك عددا لا يستهان به من المحللين الأجانب وقناة الجزيرة والدعاية الكبيرة التي تقوم بها، والذين جميعهم يروجون أن المقاومة قوية لا يمكن القضاء عليها وأن الجيش الإسرائيلي يُمْنى بخسائر فادحة وغير ذلك، وهذا يعتبر جزء كبير منه صحيحا ولكنه يتساوق تماماً مع ما تريده إسرائيل في إطار إطالة أمد الحرب واستكمال تنفيذ خطة التدمير الشامل للقطاع.
لا تزال الأطراف تخدم بعضها البعض بإصرارها على مواقفها وسيستمر الطوفان ولن ينحسر ودعونا ننتظر قادم الأيام لنعيد تقييم الأمور!