مؤشرات جدية عن تنسيق تركي - مصري حول الملف الليبي

تعكس جملة من المؤشرات وجود تفاهمات تركية – مصرية حقيقية بشأن الملف الليبي، وهو ما يثير تفاؤل الأوساط الليبية بشأن التوصل إلى تسوية تنهي الانقسامات العاصفة بالبلاد منذ سنوات وتسهل إجراء الانتخابات.
كان من المنتظر أن يزور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العاصمة طرابلس في أواخر الشهر المنقضي، لكن التحولات الداخلية الليبية (فيضانات درنة ومخلفاتها) والإقليمية (حرب غزة) حالت دون ذلك. في الأول من نوفمبر الجاري، أدى رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة زيارة إلى إسطنبول التقى خلالها مع الرئيس أردوغان، حيث جرى حوار مهم بعيدا عن وسائل الإعلام، تناول الكثير من الملفات الساخنة من بينها سعي الحكومة المنتهية ولايتها للبقاء في السلطة، وضمان الدعم التركي لهذا الاتجاه، وإيجاد صيغة للتوافق مع الجانب الروسي حول ذلك، بالإضافة إلى توطيد التعاون الأمني والعسكري، وتمكين الأتراك من النصيب الأكبر من أي مشروع لإعادة الإعمار بما في ذلك المشروع الذي تتزعمه طرابلس لإعادة إعمار درنة والمناطق الشرقية المتضررة من فيضانات العاشر من سبتمبر الماضي.
حملت زيارة الدبيبة إلى إسطنبول عددا من الرسائل المهمة، ومنها اعتماده الكامل على الدور التركي في تحديد ملامح مستقبل حكومته ومستقبله السياسي الشخصي. وقد تم التأكيد على ذلك من خلال اجتماعه مع وزير الخارجية هاكان فيدان الذي لا يزال يدير الملف الليبي منذ أن كان رئيسا للمخابرات، واتفق معه على الاستمرار في تعزيز التعاون في مجال التدريب العسكري، ورفع كفاءة قوات غرب ليبيا، وتعزيز التعاون في مجال الطاقة والتبادل التجاري، وتسهيل إجراءات تنقل المواطنين بين البلدين.
زيارة الدبيبة إلى إسطنبول
أغلب الليبيين مقتنعون بأن لا سلام ولا استقرار في البلاد دون توافق حقيقي بين تركيا ومصر
بعض الأوساط المقربة من الدبيبة تتحدث عن تلقيه توصية رسمية تركية بضرورة تحسين صورته لدى المصريين، والتعامل مع القاهرة كشريك لأنقرة في الملف الليبي، وهو ما يشير إلى رغبة الأتراك في التنسيق مع الجانب المصري بدلا من التصادم معه، وخاصة في علاقة بالمرحلة القادمة حيث إمكانية تنظيم الانتخابات البرلمانية في ربيع 2024 وتأجيل الرئاسيات إلى أفق 2025.
يعتقد الأتراك أن الدور المصري يبقى لأسباب اجتماعية وثقافية أهم بكثير من الدور الروسي في شرق ليبيا، وأن المصريين يمكن أن يساهموا في تهدئة قيادة الجيش ومجلس النواب بخصوص أي خلافات أو صراعات مع سلطات طرابلس.
بعد ساعات على عودته إلى طرابلس، أصدر الدبيبة قرارا بإعفاء بعض الفئات من مواطني تركيا ومصر من تأشيرة الدخول إلى الأراضي الليبية، مشيرا إلى أن ذلك جاء “تطبيقا لمبدأ المعاملة بالمثل”، حيث إنه “تطبيقا لمبدأ المعاملة بالمثل تعفي الفئات التالي ذكرها من مواطني جمهورية مصر العربية والجمهورية التركية من شرط الحصول على التأشيرة للدخول للأراضي الليبية”. كانت تلك الرسالة بالغة الوضوح، ويبدو أنها وصلت إلى رئيس مجلس الدولة محمد تكالة الذي يستعد لعقد لقاء في القاهرة مع رئيس البرلمان عقيلة صالح لحلحلة الوضع السياسي، وذلك بعد أيام على زيارته إلى تركيا واجتماعه بكبار المسؤولين هناك.
في أواخر أكتوبر الماضي، زار نائب وزير الخارجية التركي أحمد يلديز طرابلس، ووفق المصادر الرسمية، بحث مع تكالة علاقات التعاون بين تركيا وليبيا وسبل تطويرها، ومناقشة الأوضاع السياسية، وآلية التغلب على المشاكل التي تعوق إجراء الانتخابات، ومع محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير فرص التعاون والاستثمار والتعاون بين المصرفين المركزيين في البلدين، وجدد عند استقباله من قبل رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي التأكيد على سعي تركيا لتطوير العلاقات بين البلدين، وتم بحث تطورات الأوضاع السياسية في ليبيا، وأوجه التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، واستئناف رحلات الخطوط التركية إلى ليبيا، ثم اتجه إلى بنغازي للمشاركة في المؤتمر الدولي لإعادة إعمار درنة والمدن، والمناطق المتضررة والذي انتظم في الأول والثاني من نوفمبر الجاري تحت إشراف قائد الجيش المشير خليفة حفتر ورئيس حكومة البرلمان أسامة حماد.
يلديز قال بوضوح إن السبب الأساسي لزيارته إلى ليبيا هو للتنسيق مع السلطات الليبية حول مستقبل العلاقات التركية – الليبية، بالإضافة إلى زيارة بنغازي ودرنة للإشراف على طواقم الأعمال التركية بعد السيول التي ضربت المنطقة، مؤكدا أن الخلافات حول القوانين المتعلقة بالانتخابات في ليبيا “يمكن حلها بالمصالحة، والتوافق بين مجلسي النواب والدولة”، وأعرب عن أمله في أن يتم “التحاور والعمل بنية صافية بشأن نقاط الخلاف، التي لا تعد بسيطة، وبالرغم من ذلك يمكن حلها عن طريق التفاهم والمصالحة”.
وبخصوص التعاون العسكري بين تركيا وطرابلس، قال نائب وزير الخارجية التركي إن الغرض هو أن يكون هناك جيش موحد تحت إشراف حكومة شرعية في كل ليبيا، من أجل أمن حدودها وسلامة أراضيها، وأشار إلى أن الضباط والمدربين الأتراك “لهم تجربة متميزة حققت نجاحا في ليبيا، كما تصدر تركيا معدات الدفاع للعالم، وإذا كان هناك جيش موحد لليبيا فسوف يستفيد من هذه الخبرات والصناعات”، معبرا عن أمله في عودة ليبيا إلى المجتمع الدولي “بصفتها دولة قوية تساهم في حل الأزمات، التي تعانيها المنطقة والعالم”.
التطبيع التركي مع الشرق
في يناير 2022، أدى السفير التركي في ليبيا كنان يلماز زيارة إلى مدينة بنغازي، هي الأولى من نوعها لمسؤول تركي لهذه المدينة، بعد سنوات من القطيعة بين أنقرة والشرق الليبي، قال مراقبون آنذاك إن التحولات الإقليمية، وخاصة المصالحة التركية مع أبوظبي والرياض، والمصالحة العربية الخليجية مع قطر، ومؤشرات التقارب التركي – المصري، ساهمت في حلحلة الموقف بين أنقرة وقيادة الجيش في الشرق الليبي.
في أبريل من العام ذاته، أعلن عن استئناف الرحلات الجوية بين تركيا وبنغازي، وهو ما أدى إلى تدفق رجال الأعمال الأتراك على مطار بنينا، وإلى تنشيط الحركة التجارية والاقتصادية بين الطرفين، وكذلك استأنفت “شركة ليماك” التركية القابضة المتخصصة في مشاريع البناء والإسمنت صيانة أكبر ملعب رياضي في مدينة بنغازي شرقي ليبيا بعد توقف 12 عاما إثر اندلاع انتفاضة 2011.
ساهمت تركيا في إغاثة المتضررين من فيضانات العاشر من سبتمبر، وعملت على أن يكون لها دور مهم في إعادة إعمار المدينة، وهو ما تأكد من خلال حضور أحمد يلدز إلى بنغازي، حيث أوضح أن بلاده يمكن أن تتدخل لحل المشكلات الخلافية العالقة بين مجلسي النواب والدولة، وأضاف “إذا طلبت منا المساعدة والتنسيق بشأن القوانين الانتخابية فلدينا تجربة”. وعدّ نقاط الخلاف في قوانين الانتخابات “ليست بسيطة، لكنها ليست صعبة على التوافق، حتى يقبل الجميع بنتائج الانتخابات”.
وكان السفير التركي أعلن في يناير 2022 أن بلاده تتجه نحو فتح قنصليتها في بنغازي، لكن الأمر تأخر، وفي الثلاثين من أكتوبر الماضي، أعطى الدبيبة الإذن بفتح القنصلية التركية في بنغازي للشروع في تنفيذ الإجراءات الفنية والإدارية لانطلاق عملها، وهو ما يشير إلى أن العلاقات تتجه بقوة إلى التطبيع، نتيجة التنسيق الجاري بين أنقرة والقاهرة، والذي أشار إليه في يوليو الماضي دبلوماسي غربي طلب عدم الكشف عن اسمه، عندما قال إن هناك تقاربا كبيرا في الرؤى خلال الفترة الراهنة ظهر بين واشنطن والقاهرة وأنقرة بشأن القوات الأجنبية والمرتزقة الموجودين في ليبيا، متحدثا عن لقاء تم بمشاركة مسؤولين استخباراتيين من الدول الثلاث، تم خلاله بحث مجموعة من التصورات الخاصة بضمان استقرار الأوضاع في ليبيا، وعدم تدهورها، كنقطة انطلاق نحو إجراء الانتخابات، وضمان عدم توقف الحقول النفطية في الفترة الراهنة.
برزت بوادر “التطبيع” بين قيادة الجيش الليبي وأنقرة من خلال زيارات وفود حفتر إلى أنقرة وإسطنبول، والتي قادها أبناؤه في مناسبات عدة، ثم كانت زيارة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في أغسطس 2022 إلى أنقرة حيث التقى الرئيس أردوغان وترأس مع رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب اجتماعا لوفدي البلدين عقب لقائهما الثنائي في مقر البرلمان التركي.
توافق تركي – مصري
يشير مراقبون إلى أن لا سلام ولا استقرار في ليبيا دون توافق جدي بين تركيا ومصر، وهو ما بات يقتنع به أغلب الفرقاء الليبيين سواء في شرق أو في غرب البلاد، وقد عبر أردوغان عن ذلك عندما أكد أن الدول الخليجية التي زارها بعد عودة العلاقات بينها وبين بلاده، كانت في غاية السعادة بسبب عودة الدفء إلى العلاقة بين أنقرة والقاهرة. يضيف المراقبون أن الاتفاق بين القوتين الإقليميتين لا يتحقق إلا بتحديد نفوذ كلّ منهما مع السماح بتداخل المصالح والحسابات، مردفين أن جميع المؤشرات أثبتت أن تركيا سمحت بإعادة توزيع مراكز النفوذ والمصالح في ليبيا وأن واشنطن ساهمت في وضع الترتيبات الجديدة مع القاهرة.
أول مؤشر للاتفاق هو توقف مصر وحلفائها في ليبيا والإقليم على مناهضة الدور التركي والمطالبة بإجلاء قواتها ومرتزقتها من غرب ليبيا، والصمت الرهيب الذي اكتنف اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 بعد آخر اجتماع لها في باريس في يوليو 2023، خاصة بعد الوصول إلى مرحلة التركيز على بند طرد المسلحين الأجانب.
ثاني المؤشرات هو اتفاق ضمني بأن لا مجال للحديث عن الحضور العسكري التركي في غرب ليبيا إلا بعد الانتهاء من حل مشكلة قوات “فاغنر” الروسية التي باتت تمثل أكبر صداع لواشنطن والعواصم الغربية، لاسيما بعد توسع دورها في الدول الأفريقية ومنها ليبيا.
أول مؤشّر على الاتفاق هو توقّف مصر وحلفائها عن مناهضة دور تركيا وعدم مطالبتها بإجلاء قواتها ومرتزقتها من غرب ليبيا
ثالث المؤشرات هو أن الأتراك اتجهوا لإقناع المصريين بإمكانية الشراكة الإقليمية بينهما، وأن التعاون في ملف غاز المتوسط يمكن أن يساهم في توفير أسباب التعاون في الملف الليبي، وهو يجد تفهما من حلفاء البلدين. كما أن عودة تركيا إلى شرق ليبيا قابلتها عودة مصر إلى المنطقة الغربية، ولو بمكاسب أقل، وقد شكل تمتين العلاقات بين مستثمرين مصريين ورجال الأعمال في مصراتة منطلقا لتعاون ثلاثي سيكون للجانب التركي دور فيه.
رابع المؤشرات هو أن خيوط الاتصال بين قيادة الجيش في بنغازي ورئاسة الحكومة في طرابلس لم تتوقف خلال الفترة الماضية، سواء عبر الاجتماعات الثنائية بين ممثلي الطرفين، أو من خلال وسطاء، كما أن الطرفين كثيرا ما تجنب كلّ منهما أي محاولة للمساس من الطرف المقابل، وهو ما رأى فيه البعض توافقا غير معلن على إبقاء الوضع على ما هو عليه في سياق طموح كل منهما للاستمرار في السلطة والحفاظ على المصالح والامتيازات.
اللافت في الموضوع أن الدعم الأميركي للتنسيق التركي – المصري، يقابله دعم روسي كذلك، فموسكو كانت على توافق كامل مع أنقرة حول كل خطواتها في غرب ليبيا، ومع القاهرة بخصوص دورها بالمنطقة الشرقية، وهي تجد أن مركزها قد يكون مريحا أكثر في ظل توازنات بين قوى ترتبط معها بعلاقات نفعية. ولا يمكن فصل دور موسكو في ليبيا عن علاقاتها الإقليمية التي ما انفكت تتطور أكثر حتى مع أقوى حلفاء واشنطن.
وفق الأوساط التركية، فإن الزيارة القادمة التي سيؤديها أردوغان إلى طرابلس ستكون في سياق جولة تشمل عواصم أخرى في شمال أفريقيا، قد تكون من بينها القاهرة، وهو ما سيفتح في حالة حصوله، مجالا فسيحا في اتجاه التنسيق بين تركيا ومصر وتقريب المسافات بين طرابلس وبنغازي وفق مصالح مشتركة يتم الاتفاق عليها مسبقا.