ليس بداعش وحده تذبح الثورات وتهدد الدول
داعش، كتنظيم إرهابي إجرامي، يتستر بالدين؛ هو ليس وحيدا في تهديد المجتمعات العربية، الثائرة أم المستقرة، بل إن كل الجهاديات، والفكر الجهادي، يقوم بذلك. تنظيم داعش وظيفته تدمير الثورات والدول، والسماح للأنظمة بإعادة إنتاج نفسها، والخلط بين الدين والسياسة بشكل مستمر ودون توقف.
داعش عنوان إعلامي صادم، فهو تنظيم ذبّاح، وهو الشكل الأكثر توحشا في القتل؛ فمن يذبح يأكل من لحم فريسته، وداعش يعرف كل ذلك، ولذلك لا يتوانى، أبدا، في نشر جرائمه بمشهدية سينمائية، كي ترتعد فرائص الخائفين، وكي يستقطب القتلة من كل أنحاء العالم.
وجود الخطر الإيراني اللابس وجهَ الشيعة، ومحاولاته التمدد، منذ ثورة ذلك البلد عام 1979، ومتابعة الإخفاقات في البلاد العربية، وما دار، ويدور، فيها من حروب وثورات مخفقة، يساهم في تمدّد تنظيم داعش هذا، ويوجد له بعض المبررات، ولكن عنفيته ودمويته تنتمي للماضي أكثر مما تنتمي للحاضر، ورغم أن مشكلات هذه الدول أنتجته وأنتجت وحشيته، إلا أنه مرفوض قطعاً، والمشكلات الشيعية السنية (إضافة إلى اليهودية) لن تكون عوناً له بالتمدد والبقاء. فهو كما يتمدد سريعاً يزول سريعاً، وكل ذلك يتم بقوة السلاح لا أكثر.
وُجد تنظيم داعش لذبح الثورة السورية، فلم تكفِ جبهة النصرة، ولا أحرار الشام، ولا بقية الجهاديات، فقد تبيّن أنه أقوى منها، فكان لا بد من قدوم الأصيل بدلاً من الوكيل. هذا لا يعني أنه صناعة استخباراتية سورية إيرانية كما يقول تيار سياسي، فهو كذلك ولكن بشكل غير مباشر.
داعش تعبير عن الفشل المتكرر للدولة العربية في تجاوز مشكلاتها العامة؛ السياسية والاقتصادية، وهو تعبير عن إخفاق العملية السياسية العراقية، والتي بنيت وفق عملية طائفية، وضد كل ما يمثل الدولة القديمة، وضد السنة كذلك. هذا الموضوع يشار إليه انطلاقا من أن الكثير من قيادات داعش كانوا ضباطاً في الجيش والأمن العراقي قبل 2003.
حين تمدد داعش إلى سوريا، فلأن دور النصرة بقي هامشياً، ولم توطن الجهاديات نفسها جيداً، وبالتالي ظل الفراغ كبيراً؛ داعش هو من أرسل النصرة إلى سوريا، وحالما فشلت ورفضت المبايعة لأبي بكر، قام الأخير بالتمدد، وكان تمدده في أماكن النفط وفي المناطق التي حررها الثوار؛ وكأنه يقوم بما عجز النظام عن القيام به، أي دحر الشعب واسترجاع الأرض مجدداً.
تنظيم داعش قام بذلك سواء بالتوافق مع النظام أم وفق إستراتيجيته الخاصة الهادفة إلى بناء دولة إسلامية، كما فعل الزرقاوي من قبل في العراق؛ ولكن اتساع المنطقة التي يتحرك فيها داعش وطموحات أبي بكر البغدادي، فضلا عن تداخلات استخباراتية، دفعته ليحوّل الدولة إلى خلافة، وبذلك يقضي على فكرة الثورات في سوريا والعراق. وبفضل ذبحها، يصبح كل ما يحدث في سوريا والعراق بمثابة “قوى إرهابية عدمية”. داعش كذلك؛ لكن الشعوب محقة بثوراتها، وتسعى لتغيير واقعها نحو واقع أفضل.
خطر داعش لم يعد فقط يهدد الثورات، بل أصبح يهدد الدول المستقرة والمصالح الأميركية، وقواته على حدود السعودية والأردن، وهناك خلايا نائمة في كثير من الدول العربية والإقليمية والعالمية. هذا الخطر الممتد شكل دافعاً للتحالف الدولي القادم، والأخير بالتحالف مع قوات محلية، سيسحق داعش لا محالة، ولنقل سيحوله إلى مجرد تنظيم إجرامي صغير. وحينها سيعود للواجهة من جديد تنظيم القاعدة؛ وسيعود لجبهة النصرة وأحرار الشام دورهما مجدداً داخل سوريا. قلنا ليس بداعش فقط تهزم الشعوب، وبالتالي الخطر سيظل جاثماً ما دام الفكر الجهادي موجوداً. هذا الفكر يستقي قوته من مشكلات الواقع، ومن استمرارية تغليب التقليد على التحديث في الفكر الإسلامي، ومن فكر الإخوان المسلمين كذلك.
ولأن الأمر كذلك، فقد تكررت الحركات الجهادية ومنذ الستينات بشكل رئيسي، حالما قويت شكيمة العلمانية، وأصبحت تتقدم رويداً رويداً، وحينها تقدم الفكر الإسلاموي خطوة نحو الأمام، وهو ما عزز الميل الجهادي الذي انفجر في سورية منذ 1964 في مدينة حماه، ولاحقاً في مصر، ولاحقاً في مختلف الدولة العربية؛ ساهم في تقويته بروز الثورة “الإسلامية” في إيران، وتشكيل إسرائيل كدولة يهودية ومن نزعتها الصهيونية للهيمنة على كامل المنطقة؛ عدا ماسأة الفلسطينيين باسم الصهيونية المسنودة إلى الديانة اليهودية، وهي كمشروع سياسي طائفي تشبه كل المشاريع السياسية الطائفية التي تسند نفسها للدين.
لا يمكن استقرار الدولة، بحالتيها الثائرة والمستقرة، ما دامت الجهادية بنسخاتها المتعددة قائمة، والتي ترفع شعار الخلافة الإسلامية أو الدولة الإسلامية، وكذلك ما دام الفكر الجهادي مبثوثاً في الخطاب الإسلامي، ويتم تعميمه في كامل الدولة العربية والإسلامية، وبواسطة مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وعبر الفيسبوك واليوتوب وسواها.
إذن الحل يكمن في مشروع ثقافي وإعلامي تتبناه الدولة العربية المختلفة، وبقصد وحيد، وهو إنهاء كل نزعة جهادية في ما ينشر عن الدين، وإعادة قراءته كمرجعية أخلاقية ودينية للأفراد بل وللجماعات، وقائمة على التسامح والتعايش المشترك. وطبعاً لا يكفي هذا المشروع، بل لابد من تغيير الواقع الاقتصادي المنهار لأغلبية الشعوب العربية؛ فمن هذا الانهيار وغياب أي أفق للشباب العربي والمسلم، تستقطب الجهاديات عناصرها، فهي تؤمّن دخلاً جيداً في الأرض، وتحقق حلماً جنسياً في السماء حيث الحوريات ينتظرن الجهاديين المكبوتين. تنظيم داعش ليس وحيداً في هذا العالم، فله أخوة وعمومة وأخوال وعمّات وخالات، ولكنه الأخطر بينها، وننهي بأنّ كل هذه العائلة لا مستقبل لها إلا في عالم مليىء بالأزمات، وحالما تبدأ الحلول بالتحول إلى وقائع سيصبح داعش وكل عائلته كفطر الربيع، أي سيزول.
كاتب سوري