ليس بالسلاح وحده يفتك بالشعوب

السبت 2016/09/03

أذكر تماما تلك العبارة التي قالها، من ضمن ما حدثنا به الدكتور محمد وطفة، وهو أستاذ في علم الاجتماع، ذات إفطار رمضاني سنة 2004 بينما كنا نتبادل الحديث حول حصار العراق لمدة اثنتي عشرة سنة وما جره على أطفال العراق وشعبه من أهوال ثم احتلاله حيث قال “إن القوى الرأسمالية التي استفردت بالسيطرة على العالم تجد أن أكثر من ثلث سكان العالم باتوا يشكلون عبئا يجب التخلص منه!”.

هذه العبارة تلخص ما وصلت إليه الطبيعة الأخلاقية للتركيبة الجديدة للقوى المسيطرة في النظام الرأسمالي العالمي والتي لم تعد ترى في الإنتاج السلعي والتشغيل وحتى في سوق البضائع المادية وتوسّعه أفقيا حاجة ذات أهمية. بل إنها وجدت في السوق المالية والاقتصاد الريعي الذي كلما تمكن وتركز اتخذ شكلا مافيويا ليشكل اقتصاد النهب أحد أعمدته الرئيسية، ضالتها النهائية، وكأننا حيال قضية نكوص تاريخي عظيم يعود بنا من حالة التمدن الرأسمالية إلى الحالة البدوية واقتصاد البداوة القائم على الغزو والحماية وقطع الطرق على القوافل ونهب ما تحمل، أما من يقودونها فيتركون للعراء وللوحوش، مع أفضلية للأخير لما تمتع به البدو غالبا من قيم الشهامة والمروءة والنجدة، والتي يحقّرها النموذج الأخير في النظام الرأسمالي المسيطر.

أتذكر عبارة الدكتور وطفة في سياق ما نراه من جرائم ومجازر واقتلاع للبشر خصوصا ما يرتكب منها بحق الشعب السوري على مدى أكثر من خمس سنوات دون أن يكون هناك أفق ما يُتوقع لهذه المذبحة أن تتوقف عنده، بينما يُترك القتلة والسفاحون يمارسون ذلك بكل حرية، بل يتحصّلون على مختلف أشكال الدعم الكافي لاستمرار المقتلة. أما الأكثر لفتا للانتباه، بل والتعجب، هو صمت الشعوب عمّ يرتكب من فظاعات بحق واحد من أعرقها، وتجاهل المجتمعات البشرية قاطبة لهذا النزف المهول.

ليس بعيدا من اليوم، كانت التظاهرات العارمة تجتاح شوارع لندن وباريس وواشنطن ونيويورك والكثير من العواصم والمدن العالمية تنديدا بجرائم الحرب، منذ الحرب الأميركية في فيتنام وصولا إلى الحرب الصهيونية على غزة مرورا باحتلال العراق، فما الذي جعل الشعوب تلوذ اليوم بصمـت القبـور رغـم أن ما نشهده من وحشية وظلم يتفوقان على الكثير مما ارتكب بالأمس؟

وإذا كان لجرائم داعش في القتل المباشر أن تحرف الأنظار عن جرائم القتل الجماعي والمجازر اليومية التي تُرتكب في سوريا والعراق، فلمَ لم نرَ ذلك التضامن مع الشعب الفلسطيني الذي تعرّض للقتل العشوائي على أيدي الجنود والمستوطنين الصهاينة خلال الأشهر الماضية ردا على انتفاضة السكاكين؟ أين ذهب المتضامنون؟

ليس بالسلاح وحده يتم الفتك بالشعوب وتسحق المجتمعات، وإنما بفكّ عُرى التضامن والتعاضد بينها، بتأليب العصبيات والعنصريات، وأكثر من ذلك وأهم بتجريد البشر من قيمتهم الإنسانية فيصبح قتل حيوان ما جرما، قانونا وأخلاقا أشدّ هولا من قتل الآلاف من البشر. وتصبح المجازر والمقابر الجماعية أقل من قرينة جنائية يأنف رعاة القانون الدولي وأسياد المحاكم الجنائية الدولية من الاعتداد بها. ولن يكون ذلك عسيرا على القوى المتحكمة بمراكز الدراسات والأبحاث والمسيطرة على ثروات وموارد العالم والتي تقبض على الفضاءين الثقافي والإعلامي في العالم كله.

لقد شجع انفضاض التضامن الأممي وتحديدا على المستوى الشعبي، أو تراجعه إلى حدودٍ دنيا، مع قضايا ونكبات الشعوب وفي وجه الاستبداد والعدوان والاحتلال، شجع القوى المتحكمة بالنظام العالمي على المضي قدما في ارتكاب المزيد وفي دعم ومساندة الجزارين وإعادة الاعتبار إلى من كانت تحاصرهم بالعقوبات والتهديدات. فباتت تلك العقوبات لا أكثر من شكليات سياسية وبروباغاندا إعلامية.

ها هو نظام مافيا الملالي- البازار في إيران يكافأ على جهوده في سحق الشعبين السوري والعراقي وكذلك الشعب اليمني، ليس فقط في إطلاق يديه في المنطقة، وليس فقط بفك حصار العقوبات الدولية عنه، وليس فقط بالأموال النقدية التي حملتها الطائرات الأميركية إلى طهران، بل قبل ذلك وأهم من كل ذلك في قبوله عضوا كامل الاحترام في عصابة النظام الدولي يُحتفى بقياداته في المحافل الدولية و”يتستر” لهم عري التماثيل وترفع القبعات!

أما مافيا بوتين المسيطرة في روسيا فقد استعادت زهوها واعتبارها دوليا بعد ما أدته في حرق الشعب السوري بالفوسفور والنابلم وسحق مشافيه بمن فيها، وتهجيره! ولم يعد أحد يتحدث عن أوكرانيا أو القرم أو عن العقوبات على روسيا التي لا تطاول إلا الشعوب الروسية المحكومة.

وثالثة الأثافي إعادة الاعتبار للنظام الأسدي وتمكينه من الاستمرار بمجازره المتنقلة ومن اقتلاع المجتمعات المحلية بالكامل من منابتها، مستعينا بالميليشيات الطائفية المستجلبة، وبرعاية المنظمة الدولية التي أسرفت في تقديم المعونة “الإنسانية” لرامي مخلوف ولأسماء الأسد!

يبدو أن العصابة الكونية المتحكمة انطلاقا من الولايات المتحدة بالعالم والتي توزّع الأدوار على الجلادين الإقليميين والمحليين قد تعلمت من النظام الأسدي أنه لا بد من إسقاط القيمة الإنسانية عن البشر وإذلالهم وتحقيرهم قبل تصفيتهم. فهل تتذكر الشعوب مثال “أكِلْتُ يومَ أكل الثور الأبيض” فتستعيد قيَمَ التضامن والتعاضد وتقف في وجه جلاديها؟

كاتب لبناني

8