ليبيا وخطر الانقسام: ماذا يريد المنفي وصالح من تأجيج الصراع

مرحلة جديدة من الصراع تعرفها ليبيا هذه الأيام قد لا تنتهي إلا بتكريس حالة الانقسام السياسي والعودة بالبلاد إلى النظام السياسي الذي كان قائمًا قبل التعديلات الدستورية لعام 1963. فالشرق بات يحتكم على كل مقومات الإقليم القادر على إدارة شؤونه وتلبية حاجيات مواطنيه، والحاكمون بأمرهم في طرابلس غير مهتمين إلا باستمرار سلطتهم ونفوذهم، وهم مقتنعون بأنهم قادرون على احتكار مقاليد الحكم لسنوات أخرى.
وبينما يرسل رئيسا المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية إشارات عن وجود استعدادات فعلية لتنظيم استفتاء شعبي عبر الإنترنت حول شرعية مجلس النواب بهدف الانقلاب عليه، والاتجاه إلى تشكيل لجان متخصصة جديدة في كتابة الدستور وإعداد القوانين الانتخابية وإتمام التعيينات الرسمية على المناصب السيادية، جاء الرد واضحًا ومباشرًا من سلطات الشرق بأن أي خطوة قد يخطوها محمد المنفي وعبدالحميد الدبيبة في ذلك الاتجاه، ستقابل بخطوة أخرى أكثر حسمًا في اتجاه تحديد ملامح الحل النهائي عبر استفتاء سكان برقة وفزان على شكل النظام السياسي والعودة إلى الفيدرالية مع سيطرة كل إقليم على ثرواته بالشكل الذي يساعده على خدمة أهداف التنمية والاستفادة من حقوقه الشرعية التي طالما حرمته منها منظومة الحكم المركزي منذ أكثر من 70 عامًا.
المنفي اختار أن يقود المواجهة مع مجلس النواب وعقيلة صالح من دون التوافق مع عضوي المجلس عبدالله اللافي وموسى الكوني، واكتفى بالتنسيق مع الدبيبة الذي لا يهمه مما يجري إلا أن يسد منافذ الحل، ويبقى في موقعه عشر سنوات أخرى على الأقل
رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أبلغ سفراء الدول المؤثرة في الملف الليبي، بأن المجلس الرئاسي يلعب بالنار، ويمكن أن يقطع بممارساته الطريق أمام كل الجهود المبذولة لحلحلة الأزمة، لاسيما أن هناك من ينتظرون وقوع سلطات طرابلس في خطأ يمكن أن يمنح القوى الانفصالية جميع المبررات لتدافع عن رؤيتها في العودة بالبلاد إلى ما كانت عليه عند الإعلان رسميًا عن الاستقلال في العام 1951. صالح يدرك أنه مستهدف من المجلس الرئاسي، ولكن قبل ذلك من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة وفريقه السياسي والقوى المتحالفة معه، وأن أول ضربة موجعة وجهت إليه كانت بإقالة محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير في أغسطس الماضي.
قبل أيام قليلة، اتهم رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، مجلس النواب بمحاولة الهيمنة المستمرة على السلطة القضائية من خلال أداة التشريع في غياب النصاب الدستوري والقانوني عن جلسات البرلمان، وانعدام الشفافية والإفصاح، واعتبره سلطة تشريع انتقالية مؤقتة مدد لنفسه دون استثناء الشعب كما ينص الإعلان الدستوري بنص صريح، وذلك لظروف أمنية منعت ذلك الاستحقاق الدستوري حينها وزالت اليوم مع حالة الاستقرار والإعمار التي نشهدها في كل ليبيا، داعيًا إياه إلى إلغاء القانون رقم 5 لسنة 2023 بشأن إنشاء المحكمة الدستورية، وتجميد ومراجعة جميع القوانين التي لا تتطلبها المرحلة الانتقالية أو المخالفة للاتفاق السياسي.
المنفي رفض إدخال مجلس النواب لما وصفها بتعديلات غير مبررة على القوانين المنظمة للسلطة القضائية، والتعدي على اختصاصات تنفيذية واختصاص النشر بالجريدة الرسمية. وقال إن ذلك يخل بالتوازن والتكامل المنشود بين السلطات، لافتًا إلى ما تم مؤخرًا من تعيين البرلمان قضاة مستشارين، وأداء اليمين القانونية لأعضاء محكمة دستورية بموجب قانون إنشاء أحادي وغير دستوري قضت المحكمة العليا ببطلانه.
موقف المنفي كان يهدف بالأساس إلى استفزاز عقيلة صالح والمحسوبين عليه، رغم أن الجميع يعلم أن قرارات المحكمة الدستورية في بنغازي لن يتم تفعيلها في طرابلس تمامًا كما أن قرارات الدائرة الدستورية في طرابلس غير قابلة للتفعيل في بنغازي بسبب حالة الانقسام السياسي والحكومي واشتغال كل طرف على أنه مستقل تمامًا عن الطرف الآخر.
رئيس الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب أسامة حماد رد بقوة على المنفي، واعتبر ما ورد في خطابه بخصوص المحكمة الدستورية محاولة جديدة لتعميق الشقاق والانقسام بين مؤسسات الدولة الرسمية وأهمها مجلس النواب، الجهة الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي. وقال إن المجلس الرئاسي كانت له محاولات أخرى بإصداره قرارات مخالفة للتشريعات السارية والاتفاق السياسي، متجاوزًا بها حدود صلاحياته الممنوحة له إبان فترة سريان الاتفاق السياسي، ومن ذلك اختلاق وافتعال أزمة المصرف المركزي، والتي تسببت في انهيار الاقتصاد الوطني لفترة معينة. يرى حماد أنه لم تتم محاسبته قانونًا عن هذا العبث، الذي أثر في المركز المالي والتصنيف الائتماني للمؤسسات المالية بالدولة.
توقف حماد عند القرار الصادر عن المنفي بتشكيل وخلق جسم موازٍ للمفوضية العليا للانتخابات وهو ما أطلق عليه مسمى المفوضية الوطنية للاستعلام والاستفتاء الوطني، دون أن يكون مخولًا بذلك وفقًا للاتفاق السياسي الذي حدد صلاحياته ومهامه، بنقاط واضحة وأهمها ملف المصالحة الوطنية، والتي لم يبذل فيها أي جهود حقيقية على أرض الواقع. وحذر من أن هذه الممارسات ستترتب عنها إضاعة الفرصة لإنجاز الاستحقاقات الانتخابية، عبر مؤسسة رسمية معترف بها لدى جميع الأطراف المحلية والدولية منبثقة عن مجلس النواب وهي المفوضية العليا للانتخابات.
رئيس الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب أسامة حماد رد بقوة على المنفي، واعتبر ما ورد في خطابه بخصوص المحكمة الدستورية محاولة جديدة لتعميق الشقاق والانقسام بين مؤسسات الدولة الرسمية
اللافت أن المنفي اختار أن يقود المواجهة مع مجلس النواب وعقيلة صالح من دون التوافق مع عضوي المجلس عبدالله اللافي وموسى الكوني، واكتفى بالتنسيق مع الدبيبة الذي لا يهمه مما يجري إلا أن يسد منافذ الحل، ويبقى في موقعه عشر سنوات أخرى على الأقل. والذي يقول المقربون منه إنه يتبنى مقترحين لا ثالث لهما: إما أن يبقى في منصبه حاكمًا بأمره، أو أن يتم الاتفاق على تنظيم انتخابات سيكون مستعدًا للقبول بها في حال تأكده من أنه سيكون الفائز الأول فيها.
محمد المنفي تم تعيينه من قبل رئيس المجلس الرئاسي السابق فائز السراج سفيرًا لليبيا في أثينا وتقدم بأوراق اعتماده في ديسمبر 2018، ولكن السلطات اليونانية قررت بعد عام، وتحديدًا في ديسمبر 2019، طرده من منصبه تعبيرًا عن غضبها من اتفاق أبرمته ليبيا وتركيا في 27 نوفمبر من ذلك العام لترسيم الحدود البحرية بينهما قرب جزيرة كريت. لم يغادر المنفي أثينا وإنما اختارها مقرًا للإقامة الدائمة لأسرته. في أواخر 2020 تم استقطابه من قبل الفريق السياسي لأسرة الدبيبة التي كانت تستعد لخوض غمار الصراع على السلطة.
قدم المنفي ترشحه لرئاسة المجلس الرئاسي كممثل عن إقليم برقة أمام مؤتمر الحوار السياسي المنعقد في جنيف في فبراير 2021، وضمن لائحة يتزعمها الدبيبة وتضم نائبين هما عبدالله اللافي عن إقليم طرابلس وموسى الكوني عن إقليم فزان. جرى ذلك وفق نظام تقسيمي يستجيب لوضع البلاد إبان تأسيس دولة الاستقلال في العام 1951، وضعته الدبلوماسية الأميركية ستيفاني وليامز التي كانت تتولى آنذاك منصب رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والممثلة الخاصة للأمين العام في ليبيا بالإنابة، والتي يقال إنها كانت أكثر شخصية دولية قرأت تفاصيل الشخصية السياسية الليبية وألمت بخصوصياتها.
ليس للمنفي أي نفوذ على المنطقة الشرقية، والمجلس الرئاسي يحمل صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة على المنطقة الغربية فقط، وكثيرا ما تمردت عليه الميليشيات المسلحة، وبالتالي فإن قوات الجيش الوطني بقيادة الجنرال خليفة حفتر في برقة وفزان تعتبر أن قائدها الأعلى سياسيا هو عقيلة صالح وقائدها الأعلى الفعلي هو القائد العام الذي استطاع تكريس ملامح نظام سياسي بمرجعية عسكرية أقرب ما تكون إلى أبجديات الضباط الأحرار الذين أمسكوا بالحكم في العام 1969 وكان حفتر من بينهم.
أيُّ محاولة لتأجيج الأوضاع من جديد في ليبيا لن تؤدي إلى حرب، ولكن إلى تقسيم البلاد تمهيدا للمرحلة القادمة التي ستكون اتفاق الفرقاء على الجمهورية الليبية المتحدة المكونة من أقاليمها التاريخية وبأنظمة حكم داخلية قد تتوافق وقد تختلف، ولكن الأهم من كل شيء هو توزيع الثروة وفق نصيب كل إقليم منها، وتأمين مصالح قوى الأمر الواقع الباسطة لنفوذها على طرابلس وبنغازي.