ليالي بيروت.. لا سهر ولا صخب

بيروت المدينة التي كانت لا تعرف النوم ليلا، والتي كانت وجهة عشاق السهر والمرح من مختلف الدول العربية وحتى الأوروبية، أصبحت حاناتها ومطاعمها اليوم ركاما بعد انفجار مرفئها. فأصحاب هذه الفضاءات السياحية لا يعرفون ماذا يفعلون، فالانفجار زاد من وقع مأساتهم، بعدما حكمت عليهم جائحة كورونا بالإفلاس.
بيروت- كثيرا ما اعتادت حانة تينو ببيروت على إحياء لياليها على وقع أنغام الموسيقى التي تصدح بها أسطوانات الفينيل، وبفنانين يقدمون فقرات فكاهية منفردين، لا بل إنها استضافت ذات يوم حفلا لعيد ميلاد كلب.
لكن كل ذلك مضى وولّى، فقد سقطت أبواب الحانة وتحطمت نوافذها الزجاجية في انفجار المرفأ الذي أودى بحياة ما لا يقل عن 180 شخصا وحوّل أحد أشهر شوارع الحانات ببيروت إلى منطقة كوارث.
وقال محمد سليمان (28 عاما)، وهو أحد مالكي الحانة التي افتتحت قبل نحو عامين، “نخطط لإعادة البناء.. علينا ألا نترك كل شيء لهذا المصير”.
وتتدفق الأموال لإجراء الإصلاحات عبر حملة تمويل جماعي على الإنترنت، لكن لن يسير الكثيرون على خطاه في إعادة البناء، لأنه لن يكون هناك معنى للاستثمار في بلد يمكن أن يضيع فيه عمل سنوات عديدة في ثوان معدودات.
وقالت لينا داوود (45 عاما) “كان شارع مار مخايل نبض الحياة في بيروت، ما حصل جنون، وكأنني أدخل مكانا مجهولا. لم يخطر ببالي يوما، حتى خلال أيام الحرب، أن أرى شارع مار مخايل بهذا الشكل”.
وقالت مايا بخازي من نقابة أصحاب الملاهي الليلية والمقاهي والمطاعم، “كنا نقول إننا جميعا على الحافة.. لا أعرف كيف وصلنا إلى هذا المدى.. لن نستمر”.
وتقف الصورة النمطية عن حياة الليل في بيروت، التي ذاع صيتها في جميع أنحاء العالم كوجهة للاحتفال واللهو والسهر، شاهدا ودليلا على قدرة العاصمة على تحمل الأزمة تلو الأخرى.
ويتجسّد ذلك بوضوح في سخرية اللبنانيين من صمودهم الأسطوري بما يترك انطباعا على أنهم يحتفلون وسط الحروب والاغتيالات، في حين يختفي وراء هذا البريق واقع شديد الحزن والكآبة.
ودمّر العام الماضي، بما شهده من انهيار مالي وجائحة كورونا، صناعة الخدمات، وهي ركيزة لاقتصاد لا ينتج شيئا يذكر.
وحوّل انفجار المستودع هذا الشهر أكثر من 2000 مبنى إلى أطلال، وتسبب في خسائر بالملايين، وعرّض للخطر عشرات الآلاف من الوظائف في بلد يرتفع فيه معدل البطالة والفقر بشدة.
وتقدر بخازي، أن كلفة إعادة بناء قطاع المطاعم وحدها لن تقل عن مليار دولار.
وحتى قبل الانفجار، أغلقت المئات من الأماكن أبوابها بعد تسريح جماعي للعمال في صناعة تعمل بها شريحة كبيرة من القوة العاملة في البلاد. وترد بخازي بابتسامة على سؤال حول ما فعلته الدولة قائلة، “لا أحد يهتم”.
وأضافت أن النقابة ستساعد في توفير وجبات للموظفين لمدة شهر بعد أن أصبح العمال من ذوي الأجور المنخفضة هم أولى الضحايا وأشدهم تضررا.
وقدّرت النقابات خسائرها بعد انفجار مرفأ بيروت بمليار دولار بينها 315 مليون دولار خسائر المطاعم فقط، ودعت إلى عقد مؤتمر دولي مخصص لدعم القطاع السياحي.
وظلت حياة الليل في بيروت على مدى زمن طويل تجتذب أموال المستثمرين والفنانين من الخارج، فظهرت صور لسهرات أسطورية أعطتها تصنيفا على مستوى العالم.
ومنذ العام الماضي، تقلصت القدرة الشرائية للبنانيين بفعل انهيار العملة، بمن فيهم أبناء الطبقة الوسطى الذين تستهدفهم معظم هذه الأعمال والأنشطة. وقفزت التكاليف، وطالبَ المورّدون بأموالهم نقدا مع شحّ الدولار.
وكسا الظلام شوارع المدينة مع نقص الوقود، فيما يحمل كل أسبوع أنباء عن إغلاق متجر كبير. ولا يعتزم أصحاب مقهى أم نزيه، الذين يديرون أيضا نزلا وحانة على سطح المقهى، إعادة البناء الآن.
وقال المدير نزيه الديراني، الذي أصيب بخلع في الكتف عندما هز الانفجار المقهى، “البداية من الصفر دون أي ثقة في الدولة ستكون خسارة. قد نستثمر مرة أخرى ونتعرض لعشرين انفجارا آخر”. وأضاف “هذا المكان هو حياتي. أعرف مكان كل مسمار فيه”.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، نشر اللبنانيون مقاطع مصورة لوجوه تسيل منها الدماء خلف طاولات الحانات. وتحدث البعض عن شعور بالفقد والخسارة في مدينة ليس بها سوى القليل من الأماكن العامة.
وبالنسبة إلى جيد، وهو منسق موسيقي ومؤسس مجموعة فاكتوري بيبول الترفيهية، ينصب التركيز الآن على الحفاظ على موظفيه البالغ عددهم 170.
وحول الانفجار أحد نوادي المجموعة إلى كتلة من المعدن المتشابك. وتكلف في بدايته ما يقرب من 2.5 مليون دولار وسيحتاج الآن لملايين أخرى لإصلاحه. وقال المنسق الموسيقي “ظللنا نستثمر رغم كل شيء، لكننا الآن نشبه من يقف وسط ساحة المعركة وقد نفدت ذخيرته”.
ويذكر أن رئيس نقابة المطاعم والمقاهي والملاهي ومحلات المرطبات طوني الرامي أعلن في مؤتمر صحافي الثلاثاء، أن المؤسسات السياحية في لبنان، بينها المطاعم والمقاهي والملاهي، ستفتح أبوابها الأربعاء.
وتلا حديث الرامي بيان باسم اتحاد النقابات السياحية قال فيه إن “قرارات الإقفال العشوائية والغوغائية جريئة وكليّة لا تعنينا لأي سبب بعد الآن”، مضيفا “علينا التعايش مع كورونا لنا معادلتنا الذهبية حيث على الدولة تحمّل مسؤولياتها وأصحاب المؤسسات هم ضباط الإيقاع والروّاد هم خير حسيب ورقيب”. وأضاف “لن نقفل أبوابنا بعد اليوم، إلا بالتفاهم بين القطاعين العام والخاص”.
وبدأت صباح الجمعة الماضي مرحلة إغلاق جديدة في لبنان، تستمر حتى السابع من سبتمبر المقبل، وتتضمن حظرا للتجوّل بين الساعة السادسة مساء والسادسة صباحا.