لمصلحة من تُشوّه صورة مصر في السودان

زادت خلال الأيام محاولات بعض الأطراف السودانية الاستثمار في إلقاء قوات الدعم السريع القبض على جنود مصريين كانوا في قاعدة مروي ضمن خطط تعاون بين جيشي البلدين، عقب تحركات سابقة صبت في مجال التشكيك في أي توجه سياسي أو اقتصادي أو أمني أو اجتماعي تقوم به القاهرة بالتعاون والتنسيق مع الخرطوم.
سيتم حل قصة هؤلاء الجنود بالطريقة المحترفة التي تجيدها مصر، وسيبقى من ينفخون في تكريس أزمة أو عقدة الهدف منها تحييدها عن أي أزمة تدور في السودان، لأن كثيرين من داخله وخارجه يعملون على خلق هوة دائمة بين شعبي البلدين، تظهر بجلاء في كل محك مشترك بينهما، حيث ينحرف نحو بقاء الصورة الغامضة.
وضع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي النقاط على الحروف في اجتماعه مساء الاثنين مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مسألتين مهمتين، الأولى مناشدة المجتمع الدولي منع التدخلات الخارجية، بما يقطع الطريق على من لوحوا بأن هناك تدخلا مصريا في الأزمة أو انحيازا لفريق على حساب آخر، فهذا رئيس الدولة يتبنى خطابا واضحا في هذا السياق، والثانية الاستعداد لإطلاق مبادرة وساطة تسهم في وقف حرب ستصبح مصر فيها من أكثر الدول تضررا في حال استمرارها.
أكد الرئيس السيسي المؤكد والثابت في الموقف المصري، لأن فكرة التدخلات الخارجية مرتبطة بكوارث إقليمية تحدث بعدها، فقد تصطحب معها عبثا بمقادير دول وشعوب عربية عديدة، لأن من يتدخلون هم يدافعون عن مصالحهم فقط، وهو ما حدث في كل من سوريا وليبيا، وكانت نتيجته شبه تدمير لمقدرات الدولتين.
◙ إبعاد مصر مقصود منه إدارة المشهد بعيدا عن ضوابطها المعلنة بشأن الحفاظ على تماسك الجيوش العربية النظامية
ترفض القاهرة أن يقع السودان في هذا الفخ، وأي تدخل خارجي مهما كانت الصيغة السياسية والقانونية والإنسانية التي يستند عليها يمكن أن ينحرف عن مساراته، وفي ظل تعدد الطوائف والمكونات وانتشار السلاح بكثافة في أماكن مختلفة سيكون الأمر أشد صعوبة، ومن السهولة أن يخرج عن السيطرة، وكأن قدر مصر عندما تبدأ ليبيا مسيرتها السياسية نحو الهدوء تنفجر الأوضاع في السودان.
من هذا المنطلق، يأتي الرفض المصري للتدخلات الخارجية عموما، ويتعاظم هذا الرفض إذا كان السودان مستهدفا به، حيث يمكن أن تتدخل القوات بغرض جلب الهدوء وحفظ السلام، لكن العقد قد ينفطر منها، لاسيما أن التكوينات المسلحة في السودان تسيطر على مناطق شاسعة في الجنوب والغرب، وإذا لم تكن منخرطة مباشرة في الصراع حاليا يمكن أن تنزلق فيه لاحقا.
كما أن مسألة الوساطة التي تحدث بشأنها الرئيس السيسي في اجتماعه مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة سبقها اتصال مع رئيس جنوب السودان سلفا كير، ومناقشات بين وزيري الخارجية في كل من مصر والسعودية، جاءت لتبديد رواية من تحدثوا عن تدخل عسكري مصري محتمل واستدلوا عليه بوجود طواقم فنية في قاعدة مروي.
تم توظيف هذه القضية وتضخيمها لضمان حياد القاهرة أمنيا وسياسيا ومنح الفرصة لقوى أخرى لتتمكن من طرح مبادرات لوقف إطلاق النار ثم وساطة بين الطرفين المتصارعين من دون تنازع مع القاهرة، والتي قد تبدو في النهاية “عاجزة” أو”متقاعسة” أو في أحسن الأحوال غير قادرة على التحرك لوقف الحرب في دولة جارة تمثل لها عمقا إستراتيجيا ممتدا، ما يوحي باستمرار الشكل النمطي للدور المصري في وجدان البعض من السودانيين، ويسهم في عدم مبارحته هذا المربع.
نشطت آلية هيئة الإيجاد وتحدثت عن إيفاد وفد رفيع المستوى من رؤساء كينيا وجيبوتي وجنوب السودان، ووجود الرئيس سلفا كير ضمن هذا الوفد الذي أعلن عنه يعني وقف التعاون والتنسيق مع الرئيس السيسي الذي كان أول من تحدث معه، ومشاركة كير في هذه الآلية يؤدي إلى فرملة انخراطه في وساطة مع الرئيس المصري.
وطرحت مفوضية الأمن والسلم في الاتحاد الأفريقي مبادرة وساطة أيضا، غير معروف محدداتها، باعتبار أنها صاحبة خبرة كبيرة في السودان منذ سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، وهي التي قامت بهندسة المرحلة الانتقالية المضطربة، بما يشي بأن حل أزمات السودان يجب أن يكون في الإطار الأفريقي، خاصة بعد ارتفاع الصوت العربي من قبل مصر والسعودية والإمارات.
إبعاد مصر عن أي دور لها في السودان مقصود منه إدارة المشهد بعيدا عن ضوابطها المعلنة بشأن الحفاظ على تماسك الجيوش العربية النظامية، وبينها الجيش السوداني، بعد النتائج الكارثية التي ترتبت على انهيار عدد من الجيوش العربية في السنوات الماضية، وبالتالي التحكم في ترمومتر أزمة يصعب توقع مآلاتها النهائية، وسوف تؤثر حتما على مصر وتبقي عليها في صورة الدولة "غير المحبة للسودان".
◙ يفضي التشويه إلى التشكيك في الخطاب المصري عندما يتحدث عن مخاطر الفلول والإسلاميين على السودان
تستفيد جهات متعددة من تشويه صورة مصر في السودان ووقف تحركاتها للحفاظ على أمنه واستقراره، أبرزها فلول نظام البشير وعناصر جماعة الإخوان الذين لعبوا دورا محوريا على مدار سنوات لإحداث شرخ يتجاوز البعد السياسي التقليدي، للعبث بالروابط المتينة بين الشعبين لتأمين عملية القفز على السلطة بأي وسيلة لاحقا.
يفضي التشويه أيضا إلى التشكيك في الخطاب المصري عندما يتحدث في أي وقت عن مخاطر الفلول والإسلاميين على السودان، ويمكّن إثارة اللغط حول تصورات القاهرة لمن يسعون لتحقيق طموحاتهم واختيار الأدوات التي تساعدهم على ذلك.
دخلت على الخط مؤخرا إثيوبيا بعد حدوث تناغم مصري - سوداني سابق بشأن المطالبة بالتوقيع على اتفاق ملزم لسد النهضة، ومن مصلحتها عدم مواصلة التعاون بشأنه، ما يتطلب تشويها جديدا لأي دور مصري، وتقديم الأمر على أن هناك نظرة فوقية أو “استغلالا” لموارد السودان وأضرارا بمصالح شعبه، ما يمنح أديس أبابا فرصة للتصرف في مشروع سد النهضة وتوابعه وفقا لرؤاها.
تبدو نتائج الصراع الجاري بين قائد الجيش عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” تتجاوز حدود السودان، بصرف النظر عن من ربح ومن خسر، فقد زادت الانطباعات السلبية عن أداء المؤسسة العسكرية في البلاد، لأن الطرفين ينتسبان لها بالأصالة أو الانتساب، وهو ما يحمل تلميحات غير بعيدة حول مصر ربما يتم توظيفها في الإيحاء بوجود علاقة مصالح قوية بينها والجيش السوداني، وهي الزاوية التي تعزف عليها ضمنيا بعض الأطراف الداخلية والخارجية لتفكيك ارتباط القاهرة بالخرطوم.
نجح من خططوا لتشويه صورة مصر في تهيئة أجواء لعدم تقبل أي دور مرشح أن تقوم به حاليا أو مستقبلا، وإفساح المجال أمام دور أفريقي، يملك من يقفون خلفه مصالح كبيرة في السودان، لكن ليست بدرجة الحيوية الظاهرة في حالة مصر التي تتحرك وفقا لمنطلقات تخدم السودان أولا.