لمصر وليس للحكومة أو المعارضة

يمثل الحوار الوطني بين الحكومة والمعارضة في الوقت الراهن حاجة مهمة للدولة المصرية، ولا أحد يستهين به سواء أكان على المستوى السياسي أم الاقتصادي، فهما مرتبطان وأي نجاح أو فشل في أحدهما ستكون له انعكاسات على الآخر، وإذا كان النظام المصري منح أولوية في الجولة التالية للحوار للشق الاقتصادي الأحد المقبل، فهذا لأن الأزمة بدأت تداعياتها تنعكس مباشرة على شريحة كبيرة من المواطنين.
ولا يعني النقاش المستفيض بين الحكومة والمعارضة اعترافا بأن الثانية هزمت الأولى بضربة قاضية عندما جرى تجاهل تحذيراتها خلال السنوات الماضية، أو أن الحكومة سوف تصر على التمسك بتأكيد صحة رؤاها التي لم تحقق ما تتمناه حتى الآن، فجوهر المحادثات على الطاولة هو مصلحة مصر، ومحاولة إنقاذها من براثن أزمة اقتصادية زادت حدتها في ظل تضافرها مع جملة من التحديات الخارجية.
تشير ليونة الحكومة نسبيا أخيرا في الاستماع لرؤية المعارضة، إلى رغبة في تصحيح بعض الجوانب التي لم تحقق الفائدة المرجوة منها، لأن سياسة العناد والتجاهل والإنكار التي بدت في بعض التصرفات من الضروري التخلي عنها بعد أن ثبت عدم جدواها، وكي تتمكن مؤسسات الدولة من الحفاظ على تماسك هياكلها من خلال الحوار، والتوصل إلى قواسم مشتركة حول عدد من القضايا الاقتصادية الشائكة.
◙ ما لم تقتنع الحكومة بتواضع إمكانياتها عملا وليس قولا، لن تتمكن من تجاوز الأزمة الاقتصادية التي أخذت طريقها لتتحول إلى محنة في ظل تضارب في بعض التقديرات
يمكن تأجيل المطالب العاجلة بشأن الإصلاحات السياسية، لكن من الصعوبة العمل والاستمرار فيه والأزمة الاقتصادية قد تعصف ببعض الركائز الحيوية في الدولة بعد تزايد ضغوطها وضيق الخيارات المتاحة أمام الحكومة لتجاوزها، من هنا تأتي أهمية التوافق عبر حوار وطني مُنتج، يراعي الأجواء العامة في الداخل والخارج.
الواضح أن الحكومة والمعارضة على قدر المسؤولية في هذه اللحظة الحرجة، لكن لتعظيم عوائد هذه المسألة، على الأولى إدخال تعديلات ملموسة في المنهج الذي تتبعه وأدى إلى تزايد الضغوط الاقتصادية، ربما لأنها لم تتوقع أن العالم سيمر بهذه الموجة من الصراعات وأغفلت التعامل معها بحكمة، وفي الحالتين عليها تحمل المسؤولية وإعادة النظر في السياسات التي فاقمت حساسية الأوضاع الحالية، ورسم خارطة للأولويات، بما يمكّن المواطن البسيط في إحدى القرى النائية من الشعور بالتغيير.
يظل شعور الفقراء بالتحسن في أقصى مناطق المحروسة حرمانا هو المقياس العملي لنجاح أي عمل اقتصادي في مصر، لأن خدمة طبقة محدودة تثير النقمة والحقد والتشرذم الاجتماعي، وتخلق في المحصلة فتنة أمام الحكومة ستجد صعوبة في علاجها.
من أبرز ملامح الأزمة الاقتصادية الراهنة أن الحكومة المصرية شيدت مشروعات تنموية عملاقة بلا عوائد مالية سريعة، وتأثيرها الفوري على حياة المواطنين شبه معدوم، ما جعل فئة كبيرة منهم مفتقدة لأهميتها، وربما ناقمة عليها، وأدت النقمة المتخيلة أو الحقيقية إلى تقزيم ما يتم إنجازه، وأخفقت آلة الدعاية في إقناع الناس بالنتائج البعيدة، فالمواطن الذي لا يستطيع توفير قوته لا يهمه ماذا يحدث مستقبلا.
لذلك فرؤية المعارضة لتفكيك الأزمة الاقتصادية صعبة على الحكومة، لأن الأولى تميل إلى خيار المواطن البسيط أولا، فالشريحة القليلة التي جنت ثمار ما تم من مشروعات كبرى ليست هي المعنية وحدها بالإنجازات، وهذا التباين بين الحكومة والمعارضة ما لم يتم حل شفراته سوف تتحول جلسات النقاش إلى حلقات لحوار بين طرفي نقيض، كلاهما يغلب وجهة نظره، ما يؤكد أن مهمة المعارضة التي تتسلح بخبراء ومتخصصين ستواجه عراقيل عملية، فقدرة الحكومة على تحجيم المنهج الذي نفذته طوال السنوات الماضية محدودة، لأنها تراها صائبة وغير مستعدة لتقبل بديل.
◙ الأوضاع التي تعيشها مصر تحتاج إلى مشرط جراح لا يخشى من أوجاع المريض أو انتهاء مفعول المسكنات طالما أن عمليته دقيقة
تؤكد الصورة العامة أنه لا وقت لغطرسة الحكومة أو شماتة المعارضة فمهمة الإنقاذ تتطلب التكاتف، وأحد أهم أهداف الحوار كسر هذه النوعية من الحلقات الجهنمية، لأن الحالة التي تمر بها البلاد لا تستطيع تحمل تبعات تدهورها أكثر من اللازم.
من المهم أن يكون البحث عن قنوات وأدوات لوقف التأزم وتوفير سبل العلاج من خلال تحديد أولويات المرحلة، فأزمة اقتصادية ومعاناة حياتية لشريحة كبيرة من المواطنين تعنيان صعوبة بالغة في تحمل النتائج الناجمة عن تطورات إقليمية متلاحقة.
يبدو أن الحوار المشترك في مقدمة أهدافه غير المعلنة تقريب المسافات السياسية بالتوازي مع التوصل إلى روشتة لإيجاد حلول اقتصادية بلا عودة إلى مباراة تسجيل النقاط التي يجيدها كل طرف أو الدخول في تفاصيل جانبية تحرج أحدهما في وقت لا يتحمل تراشقات أو مناكفات، فالخاسر مصر في هذه الحالة، التي تبحث عن أدوات لتخطي أزمتها الاقتصادية ووضع سيناريوهات للتعامل مع التحديات الخارجية.
يعتقد النظام المصري بحسم أن تماسك الجبهة الداخلية ومنع محاولات تشتيتها بسبب المشاكل الاقتصادية، مقدم على تكرار الصدام مع المعارضة، والتي على الرغم من هامشية دور أحزابها في الشارع، إلا أن الخوف يكمن في بعض الأدوار الفردية لمحسوبين عليها، خاصة تلك التي تأتي بشكل عشوائي ومفاجئ وغير منظم، فقد تتحول إلى شرارة تشعل نيرانا خامدة بعد تزايد القلق بسبب تردي الأحوال المعيشية.
◙ سياسة العناد والتجاهل والإنكار التي بدت في بعض تصرفات الحكومة من الضروري التخلي عنها بعد أن ثبت عدم جدواها
قد يكون حوار الحكومة مع المعارضة يندرج تحت بند نخبة تحاور نخبة، ولا يصل إلى مستويات أخرى أكثر شيوعا وتأثيرا في المجتمع، لكن الدلالة التي تحملها جلسات الحوار الوطني عند تدشينها سوف تحمل نتائج خارج الغرف التي تدور داخلها نقاشات مستفيضة، إذا كانت القضايا التي يتم التباحث حولها في صميم اهتمامات الناس وشواغلهم اليومية، وتنعكس مخرجاتها على حياتهم مباشرة.
وما لم تقتنع الحكومة بتواضع إمكانياتها عملا وليس قولا، لن تتمكن من تجاوز الأزمة الاقتصادية التي أخذت طريقها لتتحول إلى محنة في ظل تضارب في بعض التقديرات، وارتباك في تحديد السبل لتجاوزها، مع أن أقصر طريق للوصول إلى حلول ناجعة وسريعة هو الطريق المستقيم، أي إعادة النظر في جذور الأزمة والمنهج الذي تعتمد عليه وتصحيحه إذا ثبت عدم ملاءمته للحالة المصرية. ليس تقليلا منه أو تشكيكا فيه، لأن هذا المنهج قد يكون مفيدا في ظروف أخرى ودولة تملك من المقدرات ما يساعدها على الصمود في المطبات الخارجية.
فالأوضاع التي تعيشها مصر تحتاج إلى مشرط جراح لا يخشى من أوجاع المريض أو انتهاء مفعول المسكنات طالما أن عمليته دقيقة، وستخرج حالته من غرفة الإفاقة بصحة كاملة وتستطيع ممارسة حياتها بشكل سليم وتكتسب خبرة في التعامل مع المرض، وهي القاعدة التي يجب أن تتوافق عليها الحكومة والمعارضة من أجل مصر.