لماذا نكتب

الخميس 2014/04/03

منذ نعومة أظافري نسجتُ علاقة هضميّة مع الكتابة، فقد كنتُ آخذ قطعة من الخبز الأسمر وأكتب على قشرتها البنية بقلم الحبر الأزرق كلمة خبز، أكتبها مرّتين أو ثلاث مرّات، ثم أبتلعها بِنَهم كبير، فأشعر بإشباع غريب، كما لو أني آكل الإسم والمسمّى معا!

لا أدري من أين لي بكل هذا النّهم في افتراس الكلمات أيضا. غير أني كنتُ أتساءل أحيانا عن مصير الكلمات المأكولة، وأين تذهب تلك الكلمات؟ إزاء هذا السؤال كنت أملك يقينا واحدا، الكلمات المأكولة لا تصبح نفايات كريهة. لكن ماذا تصير إذا؟ أيقنتُ في آخر الأمر أنّ قدرها لا يقودها إلى المعدة والأمعاء ومن ثمة حفرة المرحاض، لربّما قدرها أشرف من هذا كله، فربما هي تسري في الرّوح مثل الهواء النقي. هكذا وقعتُ في غواية التهام الكلمات كغذاء أكثر قداسة وصفاء. ثم تعلمتُ كيف أرفع السقف قليلا، فبدأت أكتب على قشرة الخبز ما لذ وطاب من صنوف الطعام، وما تشتهيه نفسي من جبن وزبدة وعسل وغير ذلك. وهذا دافع شهيٌّ أوقعني في غواية الكتابة. لكن هناك أيضا سببٌ آخر :

في طفولتي أيضا، كانت أحلامي الليلية جامحة إلى الرّعب والخوف والفزع. وقد تساءلتُ هل يمكنني لجمها وتعديلها أو إعادة صياغتها وفق ما أشتهي؟ هل بوسعي أن أستبدل أحلامي المخيفة بأحلام لذيذة على النحو الذي كنت أفعله مع الخبز الأسمر؟ وبالأحرى، هل بوسعي أن أصنع وجبات أحلامي بنفسي؟ هكذا أصبح حلمي في الحياة أن أصنع الأحلام بدل انتظار مجيئها من العوالم المظلمة.

كان والدي ينصحني أن أكتب كل حلم أراه في المنام على دفتر مذكرات. لا أذكر ماذا كان قصده؟ لكني مع مرور الوقت أضفتُ فكرة مذهلة. قلتُ، لماذا لا أستبق الأحلام؟ لماذا لا أكتب الحلم الذي أحبّ رؤيته على ورقة، أضعها تحت وسادة النّوم، فقد يصير النصّ حلما في المنام؟ وبالفعل كانت النتيجة مبهرة. نعم، لم تأت الأحلام مطابقة للورقة على وجه التّمام، لكن أثر الكتابة القبْلية للحلم كان كبيرا في تعديل مزاج الأحلام. ومن تلك التجربة البسيطة اكتشفتُ أنّ الكتابة هي فرصة هائلة لكي نتحكم في أحلامنا، ولكي نصنع أحلامنا بأنفسنا.

عندما فهمتُ من دروس التاريخ أنّ المؤرخين يجمعون على أنّ التّاريخ بدأ مع اختراع الكتابة، شعرتُ بأني قادر على ملامسة السبب : مع ظهور الكتابة بدأ الإنسان يصنع أحلامه بنفسه، ومن تلك اللحظة بزغ فجر التاريخ؛ طالما أنّ الأحلام هي محرك التاريخ.

لكن، أليس هذا الذي أقوله الآن مجرّد حدس عرفاني ينقصه البرهان؟ ! ربّما.. لكن، من ذا الذي بوسعه أن يبرهن لنا على أن كل الحقائق تخضع للبرهان !؟

24