لماذا نجح مشروع الديمقراطية في أوروبا الشرقية وتعثر مع العرب

لعبت عوامل سياسية وجغرافية واقتصادية فضلا عن مصالح القوى العظمى، دورا حاسما في نجاح الديمقراطية في أوروبا الشرقية قبل أكثر من ثلاثة عقود، بينما أخفق العرب في تحقيق ذلك حينما اندلعت ثورات “الربيع العربي” قبل عشر سنوات، وهو ما ضيّع على شعوب المنطقة العربية فرصة ثمينة لإرساء أسس اجتماعية عادلة، ربما لن تتكرر مرة أخرى.
لندن - تتشابه أسباب اندلاع ثورات “الربيع العربي” قبل عشر سنوات مع ثورات الانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية التي اندعلت أواخر ثمانينات القرن الماضي وكانت نابعة من أزمات اقتصادية أدت إلى احتقان اجتماعي فجّر ثورات سياسية.
وعلى غرار دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واجهت أوروبا الشرقية انتقالا ديمقراطيا أخذ أشكالا مختلفة اتسم بعضها بالعنف، لكنها مع ذلك حققت استقرارا سياسيا واقتصاديا متفاوتا، لم تتمكن الثورات العربية من تحقيقه إلى الآن.
الثورات العربية على غرار الانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية لم تكن على نسق واحد رغم تميزها بالمفاجأة والسرعة، ومطالب التغيير الجذري التي لا تقبل بإصلاحات جزئية
فمنذ 1988 ومع بداية انهيار الاتحاد السوفيتي، شهدت دول أوروبا الشرقية الخاضعة لحكومات شيوعية شمولية، وأولها بولندا ورومانيا وبلغاريا أزمات اقتصادية خانقة ولّدت احتقانا شعبيا حادا سرعان ما أخذ طابعا سياسيا يسعى إلى إحداث تغيير جذري في أنظمة الحكم الفاسدة.
ولم تكن حكومات أوروبا الشرقية تتوقع حدوث ثورات تهدد أنظمتها الشمولية بتلك السرعة والراديكالية في مطالبها، نظرا للقبضة الأمنية الحديدية التي أدارت بها البلاد. ولم يكن التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية سهلا، ولا دفعة واحدة، بل تباين من دولة إلى أخرى.
ولكن الثورات العربية على غرار الانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية لم تكن على نسق واحد رغم تميزها بالمفاجأة والسرعة، ومطالب التغيير الجذري التي لا تقبل بإصلاحات جزئية. فإذا كان الانتقال الديمقراطي في تونس والجزائر سلميا إلى حد ما، فإن الوضع في ليبيا وسوريا واليمن، كان وما زال يتسم بالعنف.
وبالتعمق أكثر في ظروف وحيثيات ما حصل في هاتين المنطقتين من العالم، يتضح أن هناك عدة فوارق جعلت من مشروع الديمقراطية في أوروبا الشرقية ينجح، بينما أخفق في الدول العربية التي شهدت انتفاضات ضد الأنظمة الحاكمة، ما عدا تونس التي استطاعت أن تنجو من الوقوع في حرب أهلية وباتت تجربتها مشهودا لها على الرغم من الخطوات البطيئة التي تسير في ترسيخها.
ويرى المحللون أن أحد الأسباب الرئيسية التي ساعدت أوروبا الشرقية على التوجه نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي، قبول شعوبها ونخبها السياسية والعسكرية مبدأ تداول الحكم، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع لحسم مسألة تنازع السلطة.
فالانقلابات العسكرية في أوروبا الشرقية صارت نادرة، وحتى الحروب الأهلية مثلما حدث في يوغسلافيا سابقا، انتهت بتدخل دولي حسم الصراع لصالح انقسام الجمهوريات المكونة للاتحاد اليوغسلافي.
اقتصاديا، لعبت أوروبا الغربية دورا في احتضان العديد من بلدان أوروبا الشرقية ضمن الاتحاد الأوروبي، ما ساعد على انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات من الغرب إلى الشرق، واليد العاملة بالعكس.
القبول بمبدأ تبادل السلطة سلميا والدعم الغربي واحترام حقوق الإنسان كانت من بين المحددات الفارقة بين المنطقتين
وكذلك توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليشمل عدة دول من أوروبا الشرقية وفّر لها حماية من أي اعتداء خارجي، وساعدها ذلك في التركيز على التنمية بدل مضاعفة ميزانية الدفاع، وقلص دور الجيش في الحياة السياسية.
وساعد قرب أوروبا الشرقية جغرافيا من نظيرتها الغربية في الاندماج الثقافي وتقبل التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات، واحترام حرية التعبير، إذ قادت ثوراتها زعامات وأحزاب وحدت المعارضة وجنبتها الانقسام والتناحر في ما بينها، مثل ما يجري في بلدان “الربيع العربي” من أمواج هادرة من المحتجين الذين لا يجمعهم سوى العداء للنظام القائم.
وفضلا عن ذلك، ليس في أوروبا الشرقية أنظمة ملكية شمولية أو مقسمة على أسس قبلية أو مذهبية عميقة، رغم أنها ابتليت بانقسامات عرقية ودينية مثلما هو الحال في أوكرانيا والبوسنة والهرسك.
كما أن الوعي الشعبي بضرورة التحول الديمقراطي، وقوة المجتمع المدني والصحافة وأحزاب المعارضة، وفشل الأحزاب الشيوعية في تقديم حلول لأزمات الناس، مهدت لتحقيق هذا الانتقال بأقل التكاليف البشرية والمادية. وهذه أبرز الأسباب التي دفعت أوروبا الشرقية نحو الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي.
في المقابل، عانت دول “الربيع العربي” غياب زعامات تتمتع بالكاريزما وأحزاب قيادية تجمع المعارضة، ما دفع التيارات المشاركة إلى الانشغال في مواجهة بعضها، أو غرقت في صراعات قبلية مثلما هو الأمر في ليبيا أو مذهبية على غرار سوريا.
كما أن العامل الخارجي لعب دورا سلبيا، فبدل أن يحتضن المجتمع الدولي “الربيع العربي”، دعّمت أنظمة عربية وأجنبية الثورات المضادة حتى لا تمتد رياح التغيير إليها.
كما أن الدول الغربية التي تحمست لـ”الربيع العربي” في بدايته، أصبحت متحفظة بشأنه لأنه أتى بمن لا تشتهيه مصالحها، ويشكل خطرا على إسرائيل التي ترعاها.
ولم تتمكن حكومات المنطقة من تحقيق الإقلاع الاقتصادي المرجو، لأسباب عديدة، وهو أمر خلف خيبة أمل لشعوبها، استغلته الثورات المضادة لمحاولة تدوير نفسها والعودة مجددا إلى السلطة.