لماذا تتعثر الرهانات على الحل السياسي للأزمة الليبية

الاستخفاف التركي بالقرارات الدولية يؤشر لمواجهة عسكرية.
الأحد 2020/12/27
انسداد في أفق الأزمة الليبية

على رغم أجواء التفاؤل التي سادت الملتقى السياسي الأخير بين الفرقاء الليبيين في تونس، وأعقاب ظهور بوادر توافق بين أعضاء اللجنة العسكرية (5 + 5) في جنيف على تثبيت وقف إطلاق النار، ما من شأنه أن يسرع التوصل إلى حل ينهي الأزمة، إلا أن الاستخفاف التركي بالقرارات الدولية يعيد مربع الأزمة إلى الصفر ويهدد بانفجار وشيك، وذلك بعد إعلان أنقرة تمديد مهام قواتها في ليبيا، في خطوة تكشف عن رغبتها في إفشال المسارات الجارية واستدراج الجيش الوطني الليبي إلى مواجهة جديدة تنسف جهود التسوية.

ظهرت خلال الفترة الماضية ومضات سياسية وعسكرية شجعت البعض على التفاؤل باقتراب التوصل إلى حل للأزمة الليبية المزمنة، أو على الأقل ضبط التوازنات التي اختلت وحالت دون التوافق حول تسوية منتجة.

وبعد أسابيع من الأخذ والرد، انقلبت ملامح التفاؤل إلى تشاؤم، وبدلا من الحديث عن لقاءات فاعلة هنا وهناك لتقريب المسافات، باتت التقديرات منصبة الآن حول تحشيدات عسكرية مختلفة، تنذر بانفجار وشيك.

ووصلت الأزمة، مثل غالبية الصراعات الإقليمية، إلى مستوى أن فصيلا هامشيا عسكريا أو سياسيا يستطيع أن يؤثر في حركتها سلبا أو إيجابا، ومع تعدد الفصائل والميليشيات واللاعبين والمنخرطين في التفاصيل وتنوع القوى الإقليمية والدولية من الصعوبة ضمان عدم شرود أي منهم عن الاتجاه المطلوب الحفاظ عليه لبعض الوقت.

وفي كل المرات التي صار فيها الأمل قريبا من تحققه كان ينقلب إلى الضد، ظهر ذلك بعد توافق اللجنة العسكرية (5 + 5) في جنيف على تثبيت وقف إطلاق النار، وبعدها عقد ملتقى تونس للحوار، بفرعيه المباشر والافتراضي، ناهيك عن اللقاءات التي عقدت في كل من المغرب ومصر للتفاهم بين مجلسي النواب والأعلى للدولة.

تحشيد جديد

عالجت الكثير من التقارير والتحليلات التي تناولت الأزمة تفاصيل تحركات البعثة الأممية ودور القوى الإقليمية والدولية المتفرقة، ومنها يمكن التوقف عند مجموعة من الاستنتاجات التي تفسر لماذا أخفقت هذه الجهود في وضع النقاط أعلى وأسفل الحروف، ولماذا عادت أجواء الحرب تسبق فصول السلام.

هناك أسئلة كثيرة مُلغمة، تبدو إجاباتها مثيرة للحيرة، لأن من يتصدرون مشهد الحل السياسي أسهموا عن قصد أو بدونه في عودة شبح العمليات العسكرية في ليبيا إلى الصدارة، وربما في هذه المرة تصبح أكثر ضراوة، فلم تعد مصر الدولة المعنية مباشرة برفض تكريس النفوذ التركي في ليبيا وما يتسبب فيه من تهديد لأمنها القومي، وحددت خطها الأحمر المعروف في سرت – الجفرة.

وخرجت خلال اليومين الماضيين تصريحات يونانية ترفض بلا مواربة نفوذ تركيا، بعد تواتر الأنباء حول قيامها بتشييد قاعدة بحرية بالقرب من السواحل الليبية، ما يمثل تهديدا لمصالح أثينا الحيوية في البحر المتوسط الذي أصبح ساحة توتر متصاعدة مع أنقرة جذبت أنظار قوى عديدة تخشى انفجار الأوضاع في منطقة تحيط بها نزاعات من أنحاء مختلفة.

من يتصدرون مشهد الحل السياسي أسهموا عن قصد أو دونه في عودة شبح العمليات العسكرية في ليبيا إلى الصدارة

ولم يعد الكلام قاصرا على تعقيدات الأزمة وتشابكاتها كسبب مقنع لتعثر آليات الحل السياسي، فهناك صراعات أشد هدأت ثم جرى وضعها على طريق التسوية، وما يدور في ليبيا يكشف إلى أي مدى يبدو المجتمع الدولي متناقضا في التوجهات، ولا يتعامل مع ليبيا بالطريقة التي تؤكد رغبته في وضعها فعلا على عتبات التسوية السياسية.

وترى بعض الدول الغربية في الإرهاب آفة تهدد كيان الكثير من مجتمعاتها، مع ذلك لم تتخذ خطوات رادعة في المناطق المزدحمة به والراعية له، في مقدمتها ليبيا التي باتت ملاذا خطيرا لجموع متباينة من المتطرفين، وزاد من خطورته تحول أراضيها إلى ساحة خلفية لتجميع فلول المرتزقة برعاية تركيا التي تصب عليها اللعنات الأوروبية ليلا ونهارا ولم يتم التصدي لنفوذها المتضخم في ليبيا.

ومنح هذا النفاق أنقرة وأطرافا ليبية أخرى ضوءا أخضر لعدم الاعتداد بأية إجراءات يقوم بها الاتحاد الأوروبي في المتوسط لوقف تهريب الأسلحة والمعدات العسكرية والمرتزقة من جانب تركيا.

وبدت ثقة المؤيدين للحل السياسي منقوصة في قدرة المجتمع الدولي على التصدي لأنقرة، ووجد الرافضون في الترهل الغربي سبيلا وفرصة مواتية لإعادة تنظيم أوراقهم العسكرية، وبعضهم كان يجلس في الوقت نفسه على طاولة المفاوضات.

أخطأت البعثة الأممية بتعدد منابر اللقاءات، إذ خلقت تنافسا إقليميا مستترا بين دول جوار ليبيا، واعتقدت كل منها في أحقيتها بالرعاية السياسية، وربما وجدت البعثة في ذلك حلا ترضي به جميع الأطراف، وأبرزهم مصر والمغرب وتونس، ولو كانت الجزائر أكثر عافية لما ترددت في استضافة حوارات تحت أي مسمى.

أرادت رئيسة البعثة الأممية بالإنابة ستيفاني وليامز، تجنب الدخول في خلافات مع دول تملك الكثير من مفاتيح وقف جريان التسوية، وسمحت لبعض القوى المحلية بالتلاعب بمسارات ظهرت متكاملة في شكلها ومتنافرة في مضمونها النهائي، فكل طرف أراد الدفاع عن مصالح الجهة التي ينتمي إليها، عقائدية أو سياسية أو أمنية أو اجتماعية، وفي أحيان أخرى كان البعد الاقتصادي طاغيا.

ولعب عدم تعيين مبعوث أممي جديد دورا مهما في زيادة معدل الانسداد في قنوات بعثة الدعم السياسي في ليبيا، وتحولت رئيسة البعثة بالإنابة إلى بطة عرجاء لا تعلم هل ستكمل مسيرتها أم سيأتي مبعوث جديد يخلفها.

وتم التعامل مع ستيفاني على أن مهمتها أقرب إلى تسيير الأعمال التي يريد القائمون عليها صيغة عدم اتخاذ قرارات جدية تخلف معارضين لهم، أو الدخول في مناوشات تزيد معاناة الفشل أمام الدور الذي يقومون به، وتخرجهم بما يشبه الفضيحة السياسية.

وكشف تبني رؤية مطاطة قدرا من اللايقين في الأطراف المحلية والقوى الإقليمية والدولية، ولم تجد ستيفاني زخما حقيقيا يدعمها للحل السياسي، وجسد دورها معالم مثيرة للشلل، فالكل يتحدثون عن الحل ولا يتخذون الإجراءات اللازمة للوصول إليه، إلى الدرجة التي بلغ الأمر ببعض القوى أن ينحصر دورها في البحث عن آليات لتفشيل التسوية، طالما أنها لن تتمكن من تحقيق أهدافها في المسار الذي تسلكه.

هذا أحد المقاييس التي تبيّن عمق النفق الذي دخلته الأزمة، ويؤكد أن إرادة المجتمع الدولي للحل لم تصل إلى مستوى الاقتناع به تماما، وتكاد تكون الصيغة التي وصلت إليها الأوضاع مرضية لعدد من القوى المحكومة بعقدة الدفاع عن مصالحها وأهدافها، بصرف النظر عن مصير الشعب الليبي، ومصير دولته، موحدة أم مفككة.

مسارات متناقضة

قوات الجيش الوطني الليبي مستعدة للتعامل مع هذه المرحلة جيدا، وتبدو أكثر جاهزية في مواجهة قيام تركيا بمراكمة أدواتها العسكرية قريبا من سرت
قوات الجيش الوطني الليبي مستعدة للتعامل مع هذه المرحلة جيدا، وتبدو أكثر جاهزية في مواجهة قيام تركيا بمراكمة أدواتها العسكرية قريبا من سرت

قرأت القوى الرافضة للمسارات المتناقضة الموقف بعناية، ولم تعارضه صراحة كي لا تتحمل مسؤولية الفشل، وتبنت رؤى وأقدمت على ممارسات تصب في غير صالح التسوية، ومن الطبيعي أن تصل الأمور إلى التحشيد الراهن، والذي يمهد الإسراف فيه لدخول مرحلة خطرة، فقد عاد الحسم العسكري يخيم على خطاب قوى رئيسية.

ويجد هذا الشبح فرصة مواتية في انكفاء الكثير من القوى الدولية على أزماتها الداخلية الخاصة بكورونا وتداعياته، ما يعيد إلى الأذهان فترة ظهور الوباء لأول مرة، في بدايات العام، الذي تغيرت فيه جوانب مهمة في قواعد اللعبة العسكرية في طرابلس.

واستثمرت تركيا والميليشيات التابعة لها في الأزمة الصحية، ما ساعدها على تقديم المزيد من الدعم لحكومة الوفاق، وتطوير آليات التعاون العسكري معها، وعودة القوات التي يقودها المشير خليفة حفتر من طرابلس إلى أماكن تمركزها في شرق ليبيا.

ولأن قوات الجيش الوطني الليبي استوعبت هذا الدرس القاسي، فقد استعدت للتعامل مع هذه المرحلة جيدا، وتبدو أكثر جاهزية في مواجهة قيام تركيا بمراكمة أدواتها العسكرية قريبا من سرت، ما يمثل خطورة كبيرة تخرج الصراع من أيادي العناصر التي أسهمت في ضبط حركته صعودا أو هبوطا ليدخل خانة قاتمة في ظل ارتفاع مفردات وإشارات الحرب في خطاب قوى أساسية في الأزمة.

ويتعزز هذا الحديث مع فتور الحماس الأميركي للتسوية، ودخول إدارة الرئيس دونالد ترامب ما يشبه البيات الشتوي مع قرب موعد رحيله، وحاجة الإدارة الجديدة بقيادة جو بايدن لبعض الوقت لترتيب رؤاها للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط، ما يعني أن الأمور إذا لم تنفلت وتخرج من عقالها ستظل على مراوحتها فترة أخرى.

ويعد الوصول إلى مستوى منضبط في الصراع أحد الأمنيات التي تريدها قوى عديدة، خوفا من التمدد الروسي، وانقضاض تركيا للحصول على المزيد من المكاسب، وكسر الخط الأحمر المصري، ما يجبر القاهرة على العودة إلى سيناريو الحرب مباشرة بلا تراجع، لأن هيبتها ستصبح على المحك، لذلك فلعبة حافة الهاوية التي تمارسها بعض الأطراف محفوفة بالتقلبات والتحديات.

4