لكي لا تذهب المواهب في مهب الريح

الموهوبون لا ينمون مواهبهم فيخسرون وتخسر عائلاتهم ثم مجتمعاتهم طاقات خلاقة فعلية قادرة على البناء المثمر والفاعل، كان من المفروض أن يكونوا القاطرة الحضارية للفعل الحضاري.
الأحد 2018/10/14
تهيئة الظروف النفسية والمادية الطريق الأمثل لدعم المواهب

في مسيرتي المهنية الطويلة نسبيا، ما يربو على الثلاثين سنة، أتعامل باستمرار مع جميع المراحل العمرية للتلاميذ، أطفالا ومراهقين وشبانا، وأنا مختصّ في اللغة العربية وآدابها يصادفني تلامذة متميزون فعلا في فروع المادة، وأخصّ بالذكر الذين يمتلكون توجّهات أدبية وقدرات في الصياغة والتأويل والتخييل تفوق ما لدى أقرانهم وأترابهم.

وتجدني -بوعي أو دونه أحيانا- أميل إلى هؤلاء لدفعهم بطرق بيداغوجية وأخرى تحفيزية لصقل مواهبهم الإبداعية، فتارة أشير عليهم بمطالعة روايات معيّنة فيها مستوى راق من الاستعمالات اللغوية ومستوى عال من تركيبة النسق السردي والحكائي مثل خماسية عبدالرحمن منيف “مدن الملح”، أو فيها بعد إنسانيّ يصوّر المأساة البشرية في بعض وجوهها كـ”شرق المتوسط” لمنيف أيضا، أو توجّها وجوديا ملحميا كما في كتابي محمود المسعدي “السد” و”مولد النسيان”.. والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدا.

بتقادم العهد انقطعت تقريبا علاقتي بـ”تلامذتي المبدعين” لسنوات طويلة، ولكن من حسنات الوسائط الإعلامية الحديثة تقريب المسافات، وسمح فيسبوك بالتلاقي مجددا، وكان الذي يجمعني بهؤلاء “الإبداع الهاوي” الذي أردته أن يكون سبيلا من سبل حياتهم فيصبح “إبداعا محترفا”.

 كانت الصدمة كبيرة جدّا لأنني بتواصلي معهم لم أجد سوى القلة القليلة التي واصلت نهج الكتابة، أما البقية فقد قبرت لديهم اللغة واستعمالاتها المخصوصة، وفي أحسن الأحوال لا تمثل سوى وسيلة عمل في مجال التعليم مثلا. وطرحت سؤالا حارقا لما اعتراني من إحباط: لماذا تقبر المواهب في مهدها؟ وقس على الأدب واللغة مجالات كثيرة أخرى منها ما يتعلق بالعلوم ومنها ما يتعلق بالاقتصاد أو الفن أو الرياضة.

بدردشتي مع البعض من تلامذتي القدامى اتضح أنّ من الأسباب الجوهرية لعدم تنمية القدرات الطبيعية الناتجة عن الموهبة أساسا ما يعود إلى الأوضاع العائلية التي تقف حائلا دون تحقيق الأهداف الشخصية والذاتية.

وهنا أعود إلى ما عشته شخصيا عند تخرّجي، وبالرجوع إلى مسيرتي الجامعية تميّزت في المسار الأدبي وكنت قادرا معرفيا وذهنيا على إكمال الدراسة والتخصّص في المجال وربما التدريس بالجامعة في ما بعد. ولكنني دفنت ذلك الحلم الجميل عمدا والسبب عائلي اجتماعي، إذ هناك أفواه جائعة تنتظر من يطعمها، وأجساد أنهكتها السنين وأعياها المرض، وكان لا بد من تضحية ما، إما تكون بكل الأحلام الجميلة والقناعة بأن طريق الإبداع والموهبة وصل إلى حدّه الأقصى الممكن، وإما بالتضحية بالروابط الاجتماعية والأسرية والاتجاه نحو العقوق الذي لا يُبرر ولا يقبل لا اجتماعيا ولا أخلاقيا.

كنت أدفع تلامذتي إلى التشبث بمهاراتهم ومواهبهم ومحاولة تنميتها والسير في دروبها رغم العراقيل والصعاب، وكنت أعلم وأخفي أنني أول ضحايا هذا المسار.

الموهوبون لا ينمون مواهبهم فيخسرون وتخسر عائلاتهم ثم مجتمعاتهم طاقات خلاقة فعلية قادرة على البناء المثمر والفاعل، كان من المفروض أن يكونوا القاطرة الحضارية للفعل الحضاري. ينقطعون عن ممارسة إبداعاتهم ويوجهون دفة اهتماماتهم لمجالات أخرى قد لا يحبونها أو هم يكرهونها ويمارسون أنشطتهم صلبها مكرهين ويتدنّى مردودهم وإنتاجيتهم.

الأشخاص والأسر والمجتمعات بما فيها من مؤسسات حكومية وأخرى مدنية مستقلة، مسؤولون عن هذا “العطب” في المسارات الحياتية. يبدأ الكبت من الفضاء العائلي وتنعدم هوامش الحرية لممارسة ما يبرع فيه الأطفال، فنختار لهم ما يجب أن يحبوا وما يمكن أن يمارسوا ونحدد عوضا عنهم مساراتهم التعليمية، أدبية أو علمية أو اقتصادية أو تقنية، بحسب ميولاتنا لا بحسب ما يستطيعون فعله في ما يختارونه بأنفسهم وبشغف وحبّ كبيرين.

وكأننا بذلك نتلمّس إنجازا ضائعا لم نستطع الإيفاء به في الماضي، فمن كان يحلم بأنه سيصير أديبا يريد من أحد أبنائه أن يحقق عوضا عنه الحلم المفقود، وقس على ذلك من كان يحلم أن يكون طبيبا أو مهندسا أو تاجرا..

تتواصل هرسلة المواهب بطريقة لا واعية في أغلب الأحيان، في الفضاءات التعليمية وليس من عذر لذلك سوى الضعف المادي لمجابهة متطلبات صقل هذه المواهب، وأحيانا أخرى يشكل البعد عن مراكز التجمعات السكانية الكبيرة في القرى وفي المدن عوائق أمام البروز، فعلى سبيل الذكر طفلان يمهران لعبة كرة القدم، أحدهما في الريف على سفح جبل والآخر في العاصمة ويقطن قرب مركب رياضي، وبشيء من التأطير سيصبح أحدهما عند كبره لاعبا محترفا متميزا ولكنهما لا يحتكمان على نفس الفرص والحظوظ، فالأول تكاد الفرصة لديه تكون صفرا والثاني ترتفع النسبة كثيرا.

الأمر عسير ولكنه يتطلب من الجميع -وخاصة الفضاء الأسري الأول- أن يبادروا إلى اكتشاف المواهب ومحاولة دفعها ليس دفعا معنويا فقط بل بتهيئة الظروف النفسية والمادية للنجاح، وأعتقد أن ذلك سيكون استثمارا وطنيا جيدا لصالح الأشخاص والأسر والمجموعة الوطنية ككل، ومن واجب الفضاء المدرسي أن يكرّس مجهوداته لمعاضدة المجهود الأسري، كما من واجب المجهود الجمعياتي معاضدة المجهود الرسمي.

21