لقاء الجريحين فتح وحماس في القاهرة بلا معنى

لم يتوقع أشد المتفائلين من الفلسطينيين أن تحقق اجتماعات حركتي فتح وحماس في القاهرة قبل أيام اختراقا ينهي أو يخفف حدة الانقسام بينهما، ويمكن تطبيقه على الأرض المحروقة تماما في قطاع غزة، فقد انتهى الاجتماع كالعادة، خلافات وتجاذبات وإصرار كل طرف على رؤيته، كأن إسرائيل لم تدمر شيئا أو أن حماس تملك سيطرة كاملة على غزة، أو أن السلطة الفلسطينية لديها قوة تمكنها من فرض كلمتها، حيث تكررت مشاهد بغيضة سابقة ظهرت في اجتماعات عقدت في أجواء هادئة ولم يكن ضجيج المدافع يحيط بها، ما يعني أن الحرب الإسرائيلية لم تغير شيئا في قناعات الطرفين.
تمسّك وفد حماس بدور محوري في غزة وهو يعلم أن الحركة أنهكت عسكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وبات مرفوض استمرارها في سدة السلطة أو بالقرب منها في غزة أو غيرها من قبل أطراف عدة داخليا وخارجيا، ولم يبد وفد فتح مرونة للتفاهم على قواسم مشتركة، وظهر مستغلا للضربات الموجعة التي تعرضت لها حماس، وحاول استعادة نفوذ الحركة الذي فقدته في القطاع على مدار نحو عقدين، بعد تعرضها لانتكاسة أعجزتها عن التحكم في مفاتيحه فترة طويلة، وأرخت بظلال سلبية على صورة السلطة الفلسطينية، وجعلتها قزمية عقب تصاعد نفوذ حماس في غزة.
◙ الحركتان لا تحتاجان إلى اجتماعات في القاهرة أو غيرها، فالأجندة التي تنهي الانقسام الفلسطيني معروفة ومختصرة ومكررة
انتهى اجتماع القاهرة على أمل أن يلتئم قريبا، وقد تنضم إليه فصائل أخرى، وسواء عقد أم لا فمن الصعب توقع الحصول على حصيلة مغايرة، فالمقدمات المنطقية تؤدي إلى نتائج منطقية، وحتى الآن لم تظهر أيّ مقدمات تشير إلى وجود تحول حقيقي في رؤية الفصائل الفلسطينية، في مقدمتها فتح وحماس، ويتعامل الجريحان، كل حسب حالته، باعتباره لم يفقد وزنه المادي والمعنوي، وأن سنوات العجز والهوان والضعف التي مرت بها الأولى لم تفتّ في عضدتها، وأشهر الضربات العسكرية المتتالية لم تفلح في كسر شوكة الثانية.
وما لم يعترفا بأهمية ما مرّا به وخطورته، وأن المرحلة الراهنة تستوجب تكاتفا وتلاحما ورؤية موحدة، لن يفلح اجتماع يعقد في القاهرة أو بكين أو موسكو أو الجزائر في تغيير الخارطة الفلسطينية، حيث عقدت جولات عديدة في عواصم مختلفة وفي كل مرة تنتشر تقديرات بأن الانقسام آن له أن يتوقف، مع ذلك تعود فتح وحماس إلى المربع صفر بعد فترة وجيزة.
لا تحتاج الحركتان إلى اجتماعات في القاهرة أو غيرها، فالأجندة التي تنهي الانقسام الفلسطيني معروفة ومختصرة ومكررة، وعنوانها تغليب الحسابات الوطنية على الحركية والشخصية، وهو ما لم يحدث حتى الآن، فأطنان الوثائق الموضوعة على الرف وفي الأدراج والاتفاقيات التي جرى التفاهم عليها تكفي لفرش غزة والضفة الغربية، لكنها لا تكفي لحث فتح وحماس على الانحناء للعواصف وتقديم ما يثبت أن الهم العام يجب أن يحتل أولوية على الرؤى الحركية، التي كبّدت القضية الفلسطينية خسائر فادحة، توشك أن تخرجها من التاريخ وتدخلها غياهب النسيان بعد الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على القطاع، والاجتثاث البشري الذي تقوم به في الضفة.
تصمم فتح وحماس على تفويت لحظة كانت كفيلة أن تجبر قيادتهما على التفكير في المصلحة الوطنية، فلم تعد السلطة مغنما أو مغرما لأحد بعد ما شاهدناه على مدار العام الماضي من نكبات، والذي قتلت فيه الحرب على غزة كل شيء، البشر والحجر، ومنظمات الإغاثة الدولية التي لم تجد من يستجيب لاستغاثاتها، في وقت مطلوب فيه أن تكون القوى الفلسطينية أكثر تقاربا وأشد تفاهما، وأعمق في طرح الرؤى، لأن الحكومة الفلسطينية لا تريد أن تظل غزة منغصا أو ترى الضفة شوكة في ظهرها.
وقد شهدت الحرب عمليات إبادة جماعية تكفي لحض فتح وحماس على السعي للحفاظ على ما تبقى من الشعب الفلسطيني، من خلال التقارب والتفاهم والتلاحم، فأيّ سلطة يمكن أن تكون مطمعا ومظاهر الحياة نفسها أبيدت في غزة، وأيّ نفوذ يمكن أن تحصل عليه حماس وفئة كبيرة من الفلسطينيين لن تنسى لها ما قامت به في طوفان الأقصى من دون أن تحسب جيدا رد الفعل الإسرائيلي الخيالي، والذي تعمّد أن يجرد حماس والفلسطينيين من أيّ مكسب قد يحصلان عليه بعد عملية السابع من أكتوبر.
استضافت مصر اجتماع فتح وحماس ولا يحدوها أمل في أن ترى تحولا كبيرا ملموسا يحدث، أو أن قناعات الطرفين ستدخل عليها تعديلات. دعت إليه واستضافته لسد بعض الثغرات أمام إسرائيل التي تريد إعادة ترتيب الأوضاع في غزة بطريقتها وعلى مقاسها، ووفقا لرؤية تخدم مصالحها فقط، فالهدف الرئيسي من اجتماع القاهرة هو التأكيد على وجود قوى فلسطينية حية وقادرة على الإمساك بزمام الأمور، وأن مظاهر الانقسام السابقة يمكن تذويبها كي لا تكون مبررا بيد إسرائيل لترفعه كلما طلب منها التفاهم مع الطرف الفلسطيني، فهي تعتزم تنفيذ مخططاتها في القطاع بعيدا عن فتح وحماس، حيث تراهما وجهان لعملة واحدة في مسألة العداء لها.
◙ تصمم فتح وحماس على تفويت لحظة كانت كفيلة أن تجبر قيادتهما على التفكير في المصلحة الوطنية، فلم تعد السلطة مغنما أو مغرما لأحد
عزز لقاء القاهرة قناعات راسخة لدى المتابعين، وهي أن توازن القوة سابقا أو الضعف حاليا لن يفضي إلى تفاهمات بينهما، فلا بد أن تتلاشى إحداهما أو تنزوي، ومع كل ما جرى لا تزال الحركتان تملكان ما يساعدهما على المناكفة وعدم الاستسلام، ما يعني أن جدليات الحوارات وإنهاء الانقسام ولمّ الشمل لن تحقق الهدف المرجو منها، حيث يعتقد كل طرف أنه الأقوى دون أن يعترف بالنتيجة المرة التي وصل إليها، وجعلته أشبه بالعاجز عن مواصلة المقاومة بالوتيرة القوية، أو التفاوض مع إسرائيل بالطريقة التي تمكنه من انتزاع حقوق الفلسطينيين.
ولذلك تحولت اجتماعات فتح وحماس إلى أشبه بحوار طرشان، لا يسمع فيه كل طرف الآخر، ويصم أذنيه كي لا يسمع ما يكرهه أو يغضبه.
إذا ظلت الاجتماعات تعقد على هذا المنوال سوف تجد الحركتان نفسيهما خارج الزمن، لأن التطورات التي تشهدها المنطقة حاليا من المتوقع أن تحدث تغييرات كبيرة على قضايا عدة، وفي القلب منها القضية الفلسطينية، فالضربات الوعرة التي تعرض لها محور المقاومة تقول إن منهج حماس يجب أن تدخل عليه تحولات تتواءم مع الواقع، والضعف الذي يخيم على المحور المقابل لن يسمح لفتح أن تتبوأ صدارة المشهد، والذي يضاف إليه ما تعانيه الحركة من تفسخ داخلي أثّر على تماسكها، وجعل السلطة الوطنية تعيش أسوأ أيامها، فلا هي قادرة على الحديث بلسان الفلسطينيين، ولا هي قادرة على استجماع قوتها بما يمكنها من أن تكون رقما مهما في المعادلة الإقليمية.