لغة الأرقام

الأرقام خادعة حين يتعلق الأمر بفنون التعبير، ولهذا قد لا تفضي المقدمات المبنية على اعتبارات إحصائية إلى نتائج سليمة، لنقل مثلا إن عدد الشعراء في موريتانيا بالمئات، فهل يمكن أن نتحدث عن شعرية موريتانية مؤثرة ولها انتشار عبر الجمهور القارئ بالعربية؟ وقد نقر مبدئيا، أيضا، بأن عدد ممارسي التشكيل اليوم في المغرب يقدر بعشرات أضعاف ممتهنيه قبل ثلاثة عقود، فهل يمكن أن نخلص، باطمئنان، إلى اعتبار الحركة التشكيلية في المغرب اليوم أقوى منها بالأمس حينما كان العدد محصورا في أسماء قليلة صنعت مجد هذا الفن المغربي عربيا ودوليا؟
قاعدة الأرقام قد تفيد في حقول الاجتماع والسياسة والاقتصاد حين نتحدث عن عدد المدارس والمستشفيات، أو الكتلة الناخبة وعدد المنخرطين في الأحزاب، أو تداولات البورصة، أو نسبة الطبقة المتوسطة في مجتمع ما، ويمكن أن نشيد عليها أطروحات فكرية وسياسية مقنعة، وهو أمر لا يستقيم في حقول الفن والتعبير.
مع بداية سنوات الاستقلال في الجزائر استثمرت الدولة في صناعة السينما، وراهنت عليها في بناء هوية ثقافية للبلد المستقل وفي إشعاع صورته، ولم يكن الأمر يخضع للغة النسب والإحصائيات، يمكن أن نتحدث عن أفلام معدودة لكن أحدها حاز السعفة الذهبية بـ”كان”، كما أنه من بدايات النصف الأول من القرن الماضي وحتى التسعينات منه لم تعرف الثقافة العربية هذه الفورة من الإصدارات الروائية وما صاحبها من الأسماء والأرقام السنوية، كانت الرواية العربية فنا محصورا بين قلة من الكتاب لكنها أعطت تجارب مؤثرة وخالدة.
قبل أيام شاركت في ندوة عن “السينما المتوسطية بصيغة المؤنث”، والسينما تشكل دوما حقلا مثاليا لإنتاج التمثّلات بصدد العقائد والأعراق والأنواع، وقبل ذلك وبعده هي حقل لإعادة رسم حدود التمركز حول الذوات، الأمر الذي أفرز هيمنة ذكورية ليس فقط في مضامين الأفلام وصيغها الفنية، بل أيضا في مجتمع صناعة السينما من الإنتاج إلى الإخراج إلى كتابة السيناريو إلى أدوار البطولة وانتهاء بلجان التحكيم والجوائز.
بلغة الأرقام، (مثلما وضحت باحثات في الندوة)، يمكن أن نصل إلى محصلة ترى أن السينما باتت حقلا لإعادة إنتاج نوع من التمييز الجنسي، غير العادي، لكن في النهاية من لم يطلع على هذه الأرقام، ولم يسع للبحث في شيء اسمه “السينما بصيغة المؤنث” فإنه سيطالع الصورة بوصفها حصيلة تطور إبداعي ساهمت فيه النساء بقدر ظاهر، ومن ثم فلا يمكن أن نربط هذا الفن بأصول نوعية دون أن يكون منطلقنا أيديولوجيا، ويستهدف بلورة تمركز مناقض، ففي النهاية لا يمكن التواؤم مع “سينما نسائية” مثلما لا يمكن التواؤم مع سينما العقائد والأطروحات الإثنية والسياسية.