لعبة حافة الهاوية بين مصر وحماس

ارتاحت حركة حماس الفلسطينية إلى الطريقة التي تدير بها علاقتها مع إسرائيل، وتتعمد أحيانا الصعود بها إلى حافة الهاوية لأنها مطمئنة لتدخل مصر وإنقاذها، وأن المجتمع الدولي غير مستعد لرؤية حرب جديدة في الوقت الراهن قد تصعّب السيطرة عليها وتؤدي إلى توسيع محاور الارتباكات في منطقة الشرق الأوسط.
بدأت ملامح هذه اللعبة تتكشّف معالمها السياسية مؤخرا ولم تعد قاصرة على صاروخ شارد يأتي من هنا أو هناك، حيث تحولت إلى طريقة تجيد حماس إتقانها لتضمن استمرارها كعنصر مؤثر في بعض التوازنات الإقليمية.
تعلم الحركة أن مصر غير مستعدة لرؤية نيران على مقربة من حدودها قد تمتد شراراتها للتأثير على أمنها القومي في ظل الحصار الإسرائيلي الذي يضرب القطاع منذ سنوات والمأساة الإنسانية التي يعيشها سكانه، ولا تتردد القاهرة في إرسال وفودها الأمنية في جولات مكوكية بين إسرائيل ورام الله وغزة لنزع فتيل أيّ أزمة جديدة.
حفظت الأطراف الثلاثة، حماس وإسرائيل ومصر، هذه القاعدة وأتقن كل منهم التعامل السياسي معها واستثمارها بالشكل الذي يحقق لكل منهم هدفه، فالحركة الفلسطينية تلجأ إلى حافة الهاوية للخروج من مأزق ما يحيط بها في الداخل أو الخارج وتريد أن تثبت مركزيّتها في مواجهة حركة فتح التي يتآكل جسمها الرئيسي تدريجيا.
تستفيد إسرائيل من لعبة حماس في الإيحاء بأنها أمام عدو حقيقي يرفض أن تعيش في هدوء وسلام، وبعيدا عن هذه المبالغة فهي تستغل هذا التوجه لترد للحركة الصاع صاعين وربما أكثر، وهكذا تتواصل بقية الطقوس من حرب تستمر أياما معدودة إلى أن تتوقف عندما يحين الوقت لوقف هش لإطلاق النار قابل للانهيار في أيّ لحظة.
تتدخل مصر بالوساطة بين الجانبين للوصول إلى هذه اللحظة الممتعة سياسيا، وتحقق غرضها كقوة إقليمية قادرة على منع حدوث انفلات في المنطقة، وتكتسب مصداقية لدى بعض القوى الدولية ويتعزز دورها عند الحدود التي تُبعد فيها شبح الحرب الطويلة عن غزة، وتضمن تحييد قوى أخرى تريد منافستها.
بدأت عملية الصعود المفاجئ والهبوط التدريجي تفقد رونقها السياسي، فعند أول احتكاك مسلح بين حماس وإسرائيل يتوجه مندوبو مصر إلى مصادر النيران لإطفائها قبل أن تتصاعد أدخنتها في المنطقة، وتكرر هذا النموذج في العديد من المرات خلال الفترة الماضية، وهو ما انعكس سلبا على التباحث حول ملفات أخرى حيوية.
أصبح خيار الحافة وسيلة لهروب حماس، وبالطبع إسرائيل، من الدخول في مباحثات جدية بشأن إنهاء الانقسام والمصالحة الفلسطينية، والتهدئة الشاملة وتفكيك الحصار وصفقة الأسرى وإعادة إعمار غزة، وما إلى ذلك من قضايا تحتاج تنازلات حقيقية.
اللعبة التي أجادت حماس توظيفها على مدار سنوات في طريقها إلى الزوال دون أن تلجأ مصر إلى التعامل معها بقسوة أو ممارسة ضغوط كبيرة عليها، فتغيرات المنطقة قد تجرف في طريقها هذا النوع من الألعاب
حصر دور القاهرة في عملية الوساطة بين الطرفين والتركيز على إنزال حماس من أعلى الشجرة لوقف التداعيات السلبية لتصرفها يقطع الطريق على التعمق في ممارسة أيّ نشاط إقليمي آخر، ويمنح أطرافا أخرى فرصة لتوسيع نطاق أنشطتها، ففي الوقت الذي تنهمك فيه مصر في ضبط العلاقة بين حماس وإسرائيل عند حدود التهدئة تتسارع الأحداث في قضايا إقليمية ذات أهمية للقاهرة.
تنتبه التوجهات المصرية إلى التصورات التي تتبناها حماس وتعرف خباياها، وتريد الاستفادة من عملية إعادة إعمار غزة لكسر واحدة من الحلقات القوية في لعبة حافة الهاوية وتسعى لاستكمال هذا المشروع والحصول على تسهيلات كي تخفف الأعباء الواقعة على كاهل فلسطينيي القطاع ووقف تحكم حماس الطويل في مصيرهم.
تمتنع مصر كثيرا عن استخدام قبضتها القوية مع حماس، ومعها من الأوراق ما يمكّنها من القيام بهذا الدور، خوفا من انهيار التعاون الأمني الذي وفر هدوءا على جانبي رفح المصرية والفلسطينية، أو لجوء الحركة إلى قوى إقليمية منافسة تمنحها مزايا في القطاع، وهو ما يمكن أن تتواطأ فيه إسرائيل إذا شعرت أن هذا التغيير ينسجم مع دوافعها في لحظة معينة.
يفسر البعض الصبر الاستراتيجي الذي تمارسه القاهرة مع حماس على أنه أشبه بالقبول بلعبة حافة الهاوية والتأقلم معها، بينما هناك تفسير آخر يتعلق بالأولويات، فقد حققت القاهرة مكاسب أمنية متباينة من وراء الصبر على حماس ووضع انتهاكاتها السابقة في الخلفية بما يفوق الدخول معها في خصومة ممتدة.
كان من الصعوبة ضبط الأمن جيدا في سيناء من دون التنسيق الأمني مع قوات حماس بعد تعمدها تسريب الكثير من المتطرفين وتهريب السلاح إليها، وكان يمكن أن تتحول غزة إلى إمارة إسلامية على حدود مصر لو لم تلجأ إلى المهادنة مع الحركة الإخوانية.
تتبنّى القاهرة منهج الصبر في العديد من القضايا، حتى بات جزءا أصيلا في توجّهاتها الخارجية، وحققت هذه الطريقة نتائج مهمة في فترات كانت فيها بعض هياكل الدولة منهارة أو شبه منهارة، ولا يعني دخول الحسابات مع حماس ضمن هذا المنهج أنها لن تخرج منه أبدا أو سوف يستمر لأجل غير مسمّى.
قطعت مصر شوطا كبيرا في ترتيب أمورها الداخلية، ما يساعدها على السعي لإعادة ترتيب أوضاعها الإقليمية، وتجاوز خطة منع امتداد النيران إليها وتسكين الأزمات المحيطة بها للمشاركة في توفير التعبئة اللازمة لغلق الجروح التي تستنزف جهودها.
تشير بعض التطورات إلى أن اللعبة التي أجادت حماس توظيفها على مدار سنوات في طريقها إلى الزوال دون أن تلجأ مصر إلى التعامل معها بقسوة أو ممارسة ضغوط كبيرة عليها، فتغيرات المنطقة قد تجرف في طريقها هذا النوع من الألعاب لأن المسرح السياسي تتم تهيئته بما يضع حماس أمام التأقلم مع أدبياته أو النزول منه.
لم تفلح كل الأدوات التي تمتلكها الحركة في تغيير رؤية مصر من فتح والسلطة الفلسطينية إليها، ولم تتمكن من الحصول على اعتراف بأنها الحركة الأم ويجب أن تتولى قيادة الدفة الفلسطينية، ما يعني أن تفاعل القاهرة مع حافة الهاوية لم يؤد إلى تغيير في القواعد الحاكمة للثوابت التاريخية في التعامل مع القضية الفلسطينية.
تظهر في الفضاء الإقليمي ملامح تحولات تتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، من بينها رسم شكل جديد للتعاون بينها وبين مصر، ما يمكن أن يمنح الثانية هامشا جيدا للحركة وتحديد أطر العلاقة مع حماس بصورة تخفّض من مستوى القبول بما يبدو كأنه ابتزاز حمساوي، فتسهيل تل أبيب مهمة القاهرة في توقيع صفقة تشمل إتمام مشروع إعمار غزة سوف يصبح بداية لتقويض لعبة حافة الهاوية في أجندة حماس.