لحظة التنمر الصعبة.. اغتيال الشخصية مع سبق الإصرار

من المدرسة إلى أماكن العمل، يوجد التنمر في كل مكان تقريبا. ولا يزال الأكاديميون غير متفقين حول كيفية وضع مفهوم للتنمر وتعريفه. واستخدم الباحث الأول الذي تحرى عن التنمر في النرويج كلمة “تنمر” بمعنى بلطجة لوصف الظاهرة عام 1973. وقد استعارت معظم الدول الغربية المصطلح الإنجليزي للتنمر "bullying"، ولكن هذا ليس هو الحال دائما. وقد يتخذ التنمر أشكالا عديدة بداية بالاعتداء البدني إلى الإساءة اللفظية والاستبعاد الاجتماعي وصولا إلى التنمر الإلكتروني. وبشكل عام فالتنمر هو عدم التكافؤ في القوة بين شخصين أو أكثر أو بين مجموعة وأخرى أو حتى بين الدول أيضا.
القاهرة – يُنظر إلى المتنمرين، عادة، على أنهم أشخاص منخفضو الذكاء، وأنهم غير أكفاء اجتماعيا ويفتقرون إلى الإدراك الاجتماعي. هذه هي النظرة التقليدية التي كان يروج لها على شاشات التلفزيون وفي السينما. لكن الجميع يعلم الآن أن هذا ليس هو الحال في كثير من الأحيان، وأن هذه الأمور قد تساهم في فشل الأشخاص في التعرف إلى أنفسهم على أنهم متنمرون.
يرتدي مصطفى أشرف ملابس غير رسمية وأحذية رياضية، وهو شاب ذو وجه لطيف يبتسم دائما. إنه يحلم بأن مصر ستكون خالية من التنمر يوما ما.
فقد أشرف صديقته ياسمين التي انتحرت بسبب التنمر في المدرسة، وبعدها حاول هو بنفسه الانتحار نتيجة التنمر، يقول أشرف في حزن “كانت ياسمين مكتئبة قليلا قبل أن تبلغ حتى 12 عاما لكنها لم تشاركني كثيرا مما كانت تتعرض له، لقد فقدت الشخص الوحيد الذي أستطيع أن أتحدث معه، وأصبت بالاكتئاب نتيجة ذلك”.
هذه التجربة المؤلمة التي تعرض لها في طفولته، جعلته بعد سنوات يؤسس منظمة “Advice Seekers” التي تحارب التنمر، يقول “عندما كنت في الـ11 كنت أتعرض للتنمر بسبب شكلي وكان الأطفال يسخرون مني كذلك لأنني أتحدث الإنجليزية ولغتي العربية ضعيفة، كان وقتا كئيبا وكنت وحيدا طوال الوقت ولم أرغب في التفاعل مع الآخرين”.
وفي عمر الـ14 حاول أشرف الانتحار في منزل صديقه بقطع معصمه، لكن صديقه أوقفه في الوقت المناسب، يقول أشرف “في تلك الليلة نمت في منزله لأننا كنا نعمل على مشروع مشترك للمدرسة، ظل صديقي مستيقظا طوال الليل يراقبني خوفا من تكرار المحاولة، ما فعله معي جعلني أفكر في مساعدة الآخرين بدلا من قتل نفسي”.
وفي تلك الفترة لم يحصل مصطفى على أي علاج نفسي واعتمد على دعم والده، وبعد 4 سنوات أصيب بالاكتئاب الشديد وحاول إنهاء حياته ثانية، يقول أشرف “مساعدة الناس أمر جيد، لكنك في بعض الأحيان تساعد الآخرين وتفشل في مساعدة نفسك”، في تلك اللحظة اتجه مصطفى للحصول على مساعدة نفسية، ويضيف “في عمر الـ18 انهرت تماما وبدأت في زيارة الطبيب النفسي لعلاج الاكتئاب فترة من الوقت، وقد ساعدني ذلك كثيرا”.
وعندما أسس أشرف “Advice Seekers” كان يروج لها عبر الإنترنت فقط، ثم أدرك بعدها أنه لا بد من الوجود على الأرض، يشرح مصطفى قائلا “كنت أواصل نشر النصائح عن مواجهة التنمر وتلقيت العديد من رسائل الضحايا وأجبتهم حسب خبرتي الشخصية”.
لم يستسلم مصطفى رغم أن العديد من المدارس رفضت أن يقدم بها عروضا عندما علمت بسنه، يقول أشرف “عندما أدركت أنني أخشى المواجهة تعلمت مهارات التحدث أمام العامة وكذلك لغة جسد الجمهور”.
تطورت المبادرة ببطء، لكن قبل عامين فتحت “الأكاديمية الحديثة لعلوم الكمبيوتر والإدارة” في المعادي أبوابها لأشرف وقدمت له الفرصة ليبدأ حملته “ضد التنمر” في الجامعة، ومع تقدم الأمور انضم لأشرف العديد من المتطوعين الذين أصبحوا بعد ذلك مستشارين ضد التنمر في العديد من المدارس الخاصة والدولية في مصر، وكان عمر أشرف حينها 18 عاما فقط.
كان لأشرف، الذي أكمل 22 عاما قريبا، تأثير إيجابي على حياة المئات من الطلاب، يقول أحد الطلاب “كنت ضحية للتنمر وأفكر في الانتحار كل يوم، كنت أختلق الأعذار للتغيب عن المدرسة رغم أنني كنت طالبا ملتزما، لكنني تواصلت مع متطوعي المنظمة حيث علموني كيف أواجه التنمر بنفسي وقد ساعدني ذلك كثيرا”.
تقول مستشارة نفسية في إحدى مدارس القاهرة إن المتنمر والمتعرض للتنمر كلاهما ضحية، وتضيف “عادة ما يكون المتنمر قد تعرض لاضطهاد نفسي من أقرانه أو والديه أو أشقائه، فيتصرف بتلك الطريقة، لذا نتعامل مع المتنمرين بمعالجة السبب الذي يدفعهم للتنمر، لكن للأسف معظم المتنمرين لا يلجأون للمشورة”.
ويتبع المديرون نفس المنهج كذلك، تقول مديرة إحدى المدارس “في معظم الحالات أستخدم التوجيه والإرشاد مع المتنمرين، وينجح ذلك في كثير من الأحيان، لكن عند تكرار الفعل كثيرا نرسل المتنمر إلى مستشار المدرسة، وفي حالات التنمر الجسدي نلجأ للفصل المؤقت لكنها ليست شائعة”.
تشهد مصر العشرات من حوادث التنمر يوميا، ما دفع السلطات المصرية إلى إصدار تشريع جديد لمواجهة هذه الظاهرة.
وقد دخل تصديق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على التشريع الجديد حيز التنفيذ والتطبيق الفعلي على الأرض بدءا من الأربعاء.
ويحدث التشريع الجديد تعديلات على قانون العقوبات المصري، من خلال إضافة مواد قانونية جديدة لتجريم فعل التنمر، كما يضع تعريفا للتنمر باعتباره جريمة لأول مرة في صياغة القوانين بمصر.
وبحسب هذا التشريع فإن “التنمر هو كل قول أو استعراض قوة أو سيطرة للجاني أو استغلال ضعف المجني عليه، أو لحالة يعتقد الجاني أنها تسيء للمجني عليه، الجنس أو العرق أو الدين أو الأوصاف البدنية أو الحالة الصحية أو العقلية أو المستوى الاجتماعي، بقصد تخويف المجني عليه أو وضعه موضع السخرية أو الحط من شأنه أو إقصائه من محيطه الاجتماعي”.
ويأتي هذا التشريع في ظل حملة قومية أطلقتها الحكومة المصرية مع صندوق الأمم المتحدة للأمومة والطفولة (اليونيسيف) وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، إذ تقول المنظمة الدولية إن نحو 70 في المئة من الأطفال في مصر ما بين 13 و15 عاما قد تعرضوا للتنمر.
وتشير الإحصاءات إلى أن حوالي نصف الأطفال في العالم تعرضوا مرة واحدة على الأقل للتنمر، خلال المرحلة المدرسية، وأن نسبة 10 في المئة منهم يتعرضون لنوع من الضغوط العنيفة بشكل منتظم.
وفي مصر أظهرت بيانات لمنظمة اليونيسيف أن 70 في المئة من الأطفال في مصر يتعرضون للتنمر من زملائهم في المدارس.
ووفق اللجنة الوطنية للطفولة، في السعودية، تشير الدراسات المسحية إلى أن 57.1 في المئة من الفتيان، و42.9 في المئة من الفتيات يعانون التنمر في المدارس.
القانون وحده لا يكفي
يرى خبراء اجتماعيون أن القانون وحده لا يكفي، ولا بد من وجود اتجاه اجتماعي للتوقف عن التنمر، ولاسيما أن الغالبية العظمى من المواطنين لا تعرف معنى التنمر.
ويقول الحقوقي حافظ أبوسعدة إن الأمر لن يتوقف بإصدار تشريع جديد، مشيرا إلى أن المجتمع بحاجة لمزيد من الإجراءات والحملات داخل المدارس لتعريف الأطفال والأهالي بالتنمر وأشكاله المختلفة.
ويضيف أبوسعدة “القانون كقوة رادعة في العموم يعد كافيا، لكن مازلنا بحاجة إلى مجهود كبير لوقف جريمة التنمر، إذ أننا نتعامل مع هذا الفعل باعتباره سخرية وفكاهة، لكن في الحقيقة يتعلق الأمر بجريمة متكاملة الأركان تؤثر بشكل كبير وضخم على ضحية التنمر”.
ويشير إلى “أن الدور الأكبر الآن أصبح على عاتق وزارات الإعلام والتربية والتعليم في عملية التوعية بالجريمة وأبعادها، وبالتحديد على وزارة التعليم في عملية رفع الوعي لدى الأطفال بالجريمة وكيفية التعامل معها وأيضا توعية الأسر على تربية أبنائها على أن التنمر جريمة موجعة للجميع وحثهم على عدم التنمر”.
ويوضح أبوسعدة أن اتجاه الدولة لإقرار قانون ضد التنمر جاء كجزء من حملة تقودها الأمم المتحدة لمكافحة التنمر، وأنه لأول مرة في تاريخ مصر يصنف التنمر كجريمة، وتوضع له عقوبة رادعة وهو ما يساعد في الحد من هذه الظاهرة.
وأعربت منظمة اليونيسيف عن سعادتها بوجود تشريع جديد لتجريم التنمر في مصر، بعدما نظمت منذ عامين حملة للقضاء على هذه الظاهرة في المدارس المصرية، بالتعاون مع المجلس القومي للطفولة والأمومة ووزارة التربية والتعليم بمصر، وبدعم من الاتحاد الأوروبي تحت شعار “أنا ضد التنمر”.
وفي يوليو الماضي، أصدرت محكمة مصرية حكمها بحبس متهمين اثنين مدة عامين مع الشغل والنفاذ، وتغريمهما 100 ألف جنيه (نحو 6250 دولارا)، في واقعة التنمر والاعتداء بالضرب على طفل سوداني الجنسية بأحد الأحياء الشعبية في العاصمة قبل نحو عام.
وبحسب التشريع الجديد، فإن الشخص الذي يرتكب جريمة التنمر يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على ثلاثين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وتكون العقوبة بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد على مئة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا وقعت الجريمة من شخصين أو أكثر أو كان الجاني من أصول المجني عليه أو من المتولين تربيته أو ملاحظته أو ممن لهم سلطة عليه.
فايروس التنمر
تنتشر ظاهرة التنمر العدوانية في أماكن العمل بين الزملاء، أو ما يمارسه الرؤساء على المرؤوسين، في المدارس، الثانويات، الجامعات وبين أفراد الأسرة الواحدة. حتى أنه من الممكن أن نلاحظها في السياسة، عندما تمارس الدول الأقوى أو التي تمتلك موارد مالية أكثر على الدول الأضعف، أو التي تعاني من الفقر، عن طريق الابتزاز أو التهديد بالقوة العسكرية.
كما تنتشر ظاهرة التنمر على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال إرسال الرسائل المسيئة أو وضع منشورات استهزاء أو باستخدام الإنترنت أو الهاتف للإجبار أو التهديد.
وإلى جانب التنمر داخل المدارس، تنتشر هذه الظاهرة في العمل وتُدعى باللغة الإنجليزية (Workplace Bullying).
هو سلوك يمارس بشكل متكرر بين زملاء العمل أو يستخدمه المدراء غير الكفوئين بحق الموظفين الأدنى منهم في التسلسل الوظيفي.
ويمكن أن يكون السلوك المسيء عبارة عن إهانة لفظية أو إساءة جسدية أو اتهام موظف ما زورا بأخطاء لم يرتكبها، أو التقليل من أهميته في الاجتماعات وبين جموع الموظفين.
كما يمكن أن تكون عن طريق سرقة إنجاز ما بنسبه إليه أو بتشجيع الآخرين على الانقلاب على الشخص المرغوب التنمر به.
ومن الممكن أن نلحظ هذا السلوك عندما تتم مطالبة موظف معين بالقيام بمعظم مهمات العمل غير الآخرين، أو العمل على إفشال مشروع موظف ما عن طريق عدم تنفيذ المهمات المطلوبة.
وأينما وجد التنمر وبأي شكل من الأشكال فإن تبعاته وتأثيراته على الشخص المتنمر به عادة ما تكون كارثية، خاصة إذا لم تتم مواجهتها ووضع حد لها.
وقد يرغب المتنمر به في الانعزال عن الآخرين أو حتى التوقف عن العمل، وقد يدخل في حالة من الاكتئاب ويصل به الأمر إلى الانتحار إذا لم يلجأ إلى مساعدة طبية في الوقت المناسب.
كما أنه من الممكن أن يلجأ إلى العنف كوسيلة لمواجهة هذه الإساءات، وقد يتحول إلى شخص غير مرغوب به في المجتمع.
ورغم ظهور أنواع متعددة من التنمر في المجتمعات العربية، خاصة في الفترات الأخيرة التي نشط فيها استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، كان من الصعب التخيل أن يطال الأمر أولئك المصابين ببعض الأمراض، أو المتوفين، في ظل العادات والتقاليد العربية وارتباطها غالبا بفكرة الدين، ومع انتشار فايروس كورونا في العالم، لم يسلم المصابون والمتوفون من حالات التنمر، بيد أن ظهورها في بعض البلدان العربية كان غير متوقع، حيث عانى بعض المصابين من المرضى والأطباء بفايروس كورونا من تلك الظاهرة، حيث وصل الأمر لرفض بعض الأهالي دفن جثثهم في مدافن قراهم.
جزء من المشكلة هو أن هؤلاء المتنمرين لا يدركون في بعض الأحيان أنهم متنمرون. على سبيل المثال، بعض المديرين المتنمرين قد يبررون إزعاجهم ومضايقة بعض موظفيهم بحجة أنهم بهذه الطريقة يدفعونهم فقط ليكونوا أفضل، ويبذلوا قصارى جهدهم في العمل. بل ربما كان هؤلاء المديرون لا يتذكرون فعليا تلك اللحظات القليلة التي تعاملوا فيها مع أولئك الموظفين. ليس هذا فحسب، بل إن بعض الرؤساء في العمل يعتقدون أن أولئك الأشخاص الذين ينهارون نتيجة لسلوكهم المتنمر ليسوا أقوياء بما فيه الكفاية للعمل في الوظيفة المنوطين بها.
عادة ما يُنظر إلى المتنمرين على أنهم أشخاص منخفضو الذكاء (IQ)، وأنهم غير أكفاء اجتماعيا ويفتقرون إلى الإدراك الاجتماعي. هذه هي النظرة التقليدية التي كنا نشاهدها أيضا على شاشات التلفزيون وفي السينما. نحن نعلم الآن أن هذا ليس هو الحال في كثير من الأحيان، ولكن هذه الأمور قد تساهم في فشل الأشخاص في التعرف إلى أنفسهم على أنهم متنمرون.