لحظات وجدانية

الاثنين 2016/06/27

ينتابنا، أحيانا، حنين من نوع ما، غامض، ومباغت، وعصيّ على التحديد، يكون دافئا مثل دمعة حينا، أو يكون لاذعا كالقشعريرة حينا آخر. وكأنه الحنين الذي سبقتني فيروز إلى وصفه، في ذات أغنية فيروزية شجية “أنا عندي حنينْ- ما بعرف لمينْ”.

وهذا الحنين، قد لا يكون حنينا بالمعنى المألوف، بل لحظة خاطفة ربما، أو ذكرى خاصة، لا يمكن كبحها. قد تنتابنا دون مناسبة، أو تبدو كذلك للوهلة الأولى على الأقل. هكذا، عاطفة غزيرة تستبد بكياننا كله، في لحظة ما. وحين نحاول التعرف على تلك اللحظة، قد لا تفضي محاولتنا تلك إلاّ إلى حنين أشدّ يملأ النفس، ولأسباب أكثر غموضا.

وقد نصرّ على مواصلة البحث عن أسباب ما نحن فيه من شرود مفاجئ، وانقطاع يكاد يكون تاما، لا عن اللحظة التي نعيشها، بل حتى عمن يشاركوننا لحظتنا تلك. ننقطع فجأة عن لحظة فرح اجتماعية متأججة، أو نكفّ عن عمل كنا مستغرقين فيه، أو نتوقف عن فنجان القهوة الذي بردت رائحته على أصابعنا دون أن ننتبه.

في لحظة كهذه، نرفع رؤوسنا عن بياض الورقة، أو عن لوحة مفاتيح الحاسوب، مشدوهين نحدق في اللاشيء، في البعيد الذي لا يراه أحد سوانا، لنغرق بعد ذلك في بياض أعمق، وأكثر اتساعا. يأخذنا إلى مكان محدد، أو إنسان بذاته، مسّت أرواحنا ذات يوم، خفقة من ثيابه، أو همسة من يديه، وجعل إحساسنا بالحياة مختلفا.

وقد يأخذنا هذا البياض أو الشرود إلى موقف مشحون بأقصى ما تجيش به النفس من انفعال؛ انفعال الرغبة أو الألم أو الاحتجاج، فتنتفض فينا، مثلا، طاقة من الرفض لحالة بعد فوات الأوان. أهو الندم على موقف لم نتخذه، في لحظته المناسبة؟ أهو الاعتراضُ على مهادنة لا تليق بنا أم هو الغضب الذي لم نعش لحظته المنفلتة من عقالها بدافع الخوف، أو التردد، أو الحرص الذي آثرنا فيه السلامة على المواجهة، والصمت على التهلكة النبيلة؟

ونحن لا ندري، في الغالب، أيّ حجرين يابسين أطلقا هذه الشرارة في ثنايا أرواحنا، لتمزق ذلك الهدوء الخفيف البارد، وتطيح بألفتنا للأشياء أو حيادنا إزاءها: ونحن على النهر، مثلا، نتأمل رتابة حركته دون أن نرفع أصواتنا بالشكوى، أو ننهره ليحثّ خطاه إلى حياته أو نهايته دون إبطاء. ولكن لماذا تحركت نفوسنا في هذه اللحظة بالذات وتحديدا؟ ما الذي يدفعنا إلى كل هذا التحديق في البئر الراكدة؟

إن قمرا صغيرا منطويا على نفسه، وراء غيمة خفيفة، يمكنه أن يحرّك الكثير من مياه النفس، وثمة تفاصيل عديدة يمكنها أن تفعل الأمر ذاته؛ مقطع روائيّ يحتدم بالنشوة أو الألم، مدينة تختنق تحت هوائها الثقيل، شجرة وحيدة كفت عن الحفيف منذ زمن، كل ذلك يمكنه أن يخرجنا من هدوئنا المعتاد، أو يبتعد بنا عن زماننا المنطقيّ الرتيب إلى زمن آخر، لا يحده تعريف ولا يفسره منطق.

هكذا هي النفس البشرية إذن؛ ها هي نفوسنا جميعا رغم إصرار بعضنا على النكران، ملتقى لجبروت كاذب وهشاشة لا نعيرها انتباها، تبدو هذه النفس في ذروة عنادها المقيت، بينما هي في حقيقتها، تتآكل مثل قصبة مليئة بالرضوض، وفي لحظة ما مفاجئة كالحلم أو الذهول، يسقط عنها لحاؤها الخارجيّ الخادع، فتتجلّى عارية وسهلة المنال، مثلما كمأة تحت وابل عنيف من المطر.

شاعر من العراق

14