لتتعلّم بغداد من ليفربول

الذكرى الثالثة لانتفاضة تشرين انتهت بشكل خجول ومؤسف بعد فشل منظمي التظاهرات بحشد جمهور على عدد مقاعد أنفيلد ليعبر عن مطالبه ومطالب الملايين الصامتة التي تجتر الدين والمذهب كغذاء يومي.
الخميس 2022/10/06
سلطة متخلّفة تغتال الحياة

تعتبر لعبة كرة القدم في إنجلترا هي الأكثر شعبية في البلاد وجمهورها متعصّب جدا لفرقها، بغضّ النظر عن الدوريات التي تلعب بها تلك الفرق سواء كانت في الدوري الممتاز أو غيره. ومن الأندية التي لها باع طويل في كرة القدم الإنجليزية هو نادي ليفربول الملقّب بالحُمْر، ويتّسع ملعبه المعروف باسم الأنفيلد لما يقارب الخمسة وخمسين ألف متفرّج. وعلى الرغم من أنّ النادي تأسّس أواخر القرن التاسع عشر، إلّا أنّه أصبح جزءا مهما من المدينة التي تأسّست بداية القرن الثاني عشر وتاريخها الطويل كميناء مهم غرب البلاد. وليفربول علاوة على كونها ميناء، تتميز كمدينة صناعية وفيها العديد من الجامعات المرموقة على مستوى العالم، كما وفيها العديد من المراكز الثقافية والمسارح وغيرها من دور الثقافة المهتمّة ببناء الإنسان.

سكّان المدينة هم كما سكّان باقي إنجلترا يتمتعون بدراسة مجانية في مدارسها ومعاهدها، وجامعاتها بمنح من الدولة تسترجعها بعد تخرج الطالب، كما ويتمتعون برعاية صحيّة مجانيّة ومتطورة، ونظام رعاية اجتماعية متقدّم يوفّر حماية للأطفال والبالغين وذوي الاحتياجات الخاصّة والمسنّين بمنحهم رواتب الإعانة ودعم احتياجاتهم المختلفة. وعلى الرغم من أنّ سكّان المدينة يتمتعون بهذه الامتيازات، وعلى الرغم من أنّ مدينتهم مدينة صناعية ومركز ثقافي وعلمي مهم بالبلاد، إلّا أنّهم يبدون تذمّرهم من أوضاعها! وعادة ما تعبّر المدينة عن تذمّرها في ملعب أنفيلد أثناء مواجهات فريقهم مع الفرق الأخرى، ويكون التذمّر على شكل معارضتهم للعائلة المالكة وعدم احترامهم للنشيد الوطني للبلاد.

◙ ما أجمل أن يكون ملعب الشعب كما أنفيلد منصّة للغضب والحقد الشعبي على السلطة وأحزابها وميليشياتها وعصاباتها ومنابرها في كلّ مباراة

بعد وفاة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية مؤخرا وعلى غير العادة احترمت جماهير النادي دقيقة الصمت حدادا على وفاتها أثناء استضافة الفريق لنادي أجاكس أمستردام الهولندي، وقد كتبت الصحف البريطانية وقتها أنّه التزام نادر لجماهير النادي. هذه الجماهير التي تغنّت في نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي عام 1965 بـ”حفظ الله فريقنا” عوضا عن نشيد “حفظ الله الملكة”، كما وكانت لها صرخات استهجان أثناء عزف النشيد الوطني عام 2012 وكذلك في شهر مايو الماضي أثناء عزفه في نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي، ما دفع برئيس الوزراء بوريس جونسون وقتها إلى إدانة تصرفات الجماهير، فيما كانت كلمات المدرب يورغن كلوب عميقة جدا حينما قال “لن يفعلوا ذلك لو لم يكن هناك سبب.. يجب أن نفهم لماذا؟”.

سكّان المدينة يعبّرون عن استيائهم كون مدينتهم عانت من التهميش خلال فترة السبعينات والثمانينات. وفي العام 1981 اندلعت مواجهات في المدينة لتسعة أيّام احتجاجا على الأوضاع الصعبة. هذه الأحداث والتوترات جعلت سكان ليفربول “يعتبرون أنفسهم غرباء ومنفصلين عن بقية البلاد”! وعلى الرغم من كل الامتيازات التي يتمتع بها البريطانيون، قال جون جيبونز أحد مشجعي النادي لراديو بي.بي.سي وهو يعبر عن استيائه من أوضاع المدينة “إنه أمر يشعر به مشجعو ليفربول بشدة، إنها مدينة تريد أن تتحدث بصوت عال حول كيف يجب أن نعيش في مجتمع أكثر عدلا”!

انتهت الذكرى الثالثة لانتفاضة تشرين بشكل خجول ومأساوي ومؤسف، بعد فشل منظّمي التظاهرات بحشد جمهور على عدد مقاعد أنفيلد ليعبر عن مطالبه ومطالب الملايين الصامتة التي تجتر الدين والمذهب كغذاء يومي وعلى مدار العام، بعد أن حوّلت حياتها وحياة أبنائها إلى طقس جنائزي بكائي لا يعرف معنى للحياة والفرح. الملايين من البشر يعيشون في مدن محطّمة، حيث لا خدمات ولا رعاية صحيّة ولا تعليم ولا ثقافة، الملايين تسير المئات من الكيلومترات لإحياء طقوسها ولا تخرج بتظاهرة للمطالبة بأن تعيش بشكل آدمي. هذه الملايين المسحوقة والمهمّشة والمهشّمة ستبقى كما هي عاجزة عن تغيير أوضاعها، طالما تفكّر بشكل الحياة بعد الموت عوضا عن شكل الحياة اليوم.

ما قلناه ليس يأسا من الواقع المزري الذي نعيشه في ظل سلطة المحاصصة والإسلام السياسي وسلبية الغالبية من جماهير شعبنا، بل صرخة في أنّ بغداد التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، عليها أن تصرخ بصوت عال وعال جدا لتطالب بأن يعيش أبناؤها وأبناء العراق في مجتمع أكثر عدلا.

لنتعلم من ملعب ليفربول ونحوّل ملاعبنا وفي كل مباراة إلى ملاعب نضالية، نهتف فيها ضد اللصوص والقتلة وبيّاعي الوطن، نهتف فيها من أجل أطفالنا وشابّاتنا وشبابنا الذين يضيعون في زحمة البطالة والإهمال والنسيان والمخدّرات، نهتف من أجل غد أجمل لبلادنا وشعبنا.. ما أجمل أن يكون ملعب الشعب كما أنفيلد منصّة للغضب والحقد الشعبي على السلطة وأحزابها وميليشياتها وعصاباتها ومنابرها في كلّ مباراة. ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، فلتكن ملاعبنا كما ملعب الحريّة (آزادي) في طهران أيضا، حيث حناجر الجماهير تهتف ضد سلطة الدين المتخلّفة وهي تغتال الحياة كما ذيولها وهم يغتالون الحياة ببلادنا.

8