لبنان يتنكر لمن خدمه كل العمر

لم يبق في لبنان ما يضمن الحياة لذلك اختار أغلب الشباب الهجرة إلى حيث مورد الرزق، وبقي المسنون يواجهون مصيرهم الغامض وهم في آخر العمر يعانون من الأمراض وقلة ذات اليد في ظل غياب الضمان الاجتماعي ورعاية الشيخوخة، فالأزمة الاقتصادية وضعتهم في نفق مظلم.
بيروت - لم تعد الحياة سهلة في لبنان، البلد الذي يعاني من أزمة سياسيّة واقتصاديّة طاحنة لم يشهدها في تاريخه الحديث؛ ففي مطلع يونيو الماضي وصف البنك الدولي الأزمة في لبنان بأنّها “الأكثر حدّة وقسوة في العالم”، وصنّفها ضمن أصعب ثلاث أزمات سُجّلت في العالم منذ أواسط القرن التاسع عشر.
ومنذ أشهر يعاني لبنان شحًّا في الوقود والأدوية وسلع أساسيّة أخرى، بسبب عجز مصرف لبنان (البنك المركزي) عن توفير النقد الأجنبي اللّازم لعمليّات الاستيراد.
ولم تَسلم دور العجزة في لبنان من هذه الأزمة التي تطالها بشكل كبير وتُعرّض صحّة المسنين وكرامتهم للخطر، في ظلّ غياب ضمان الشيخوخة في البلد.
معاناة كبيرة تواجه “دار الرعاية الماروني” في منطقة فرن الشباك (شرق)، والذي يضمّ نحو 80 شخصًا، وفق مسؤول المركز مالك مارون.
يقول مارون لـ”الأناضول” إن “الكلفة اليوميّة لكلّ مسنّ باتت مرتفعة، وتوازي 100 ألف ليرة للشخص الواحد، بين طعام وحاجات خاصّة ومستحضرات تنظيف وغيرها”.
ويلفت إلى أنّ “وزارة الصحّة تدفع بدل إقامة يوميا عن كلّ شخص يوازي 26350 ليرة، أمّا وزارة الشؤون الاجتماعيّة فتدفع 17500 ليرة لبنانيّة يوميًّا”.
ويوضح أنّه “لا يمكن تسجيل أيّ مسنّ في الوزارتين معًا، بل يجب اختيار واحدة فقط”.
في السابق كانت هذه المؤسّسة تعتمد بشكل كبير على المساعدات التي تقدَّم لها، إلّا أنّه بفعل الأزمة وسوء الوضع المعيشي تقلّص عدد هذه المساعدات.
ويرى مارون أنّ “كلّ الحلول التي نقوم بها مؤقّتة، وعلى الدولة إعادة النظر في التعامل مع هذه المؤسّسات، وإلّا سنكون أمام كارثة”.
“دار العجزة الإسلامي” في بيروت هو من أكبر دور العجزة في لبنان، إذ يضمّ نحو 450 مسنّا.
ويقول مدير العلاقات العامّة في الدار جلال شبارو إن “الوضع صعب جدًّا. وحتى اليوم لا نزال نحاول مواجهة المشكلات، لكن بصعوبة كبيرة”.
ويلفت شبارو إلى أنّ “الكلفة اليوميّة لحاجات المسنّين مرتفعة جدًّا”، مردفا “ليست لدينا موارد سوى تلك التي تقدّمها وزارة الصحّة، بالإضافة إلى بعض التقديمات والمساعدات التي نحصل عليها”.
ولا يختلف حال “دار الأمان” لرعاية المسنين في العباسية (جنوب) عن حال كل من “دار الرعاية الماروني” و”دار العجزة الإسلامي”.
وتدقّ مسؤولة العلاقات العامّة في “دار الأمان” غزوة حيدر ناقوس الخطر، وتقول “نحاول أن نواجه كلّ الصعوبات التي تعترضنا بصعوبة كبيرة”.
يعاني الدار الذي يضمّ نحو 65 مسنًا من أزمة فقدان المازوت بشكل كبير، والتي تنعكس على توافر التيار الكهربائي فيه.
وتؤكّد المسؤولة أنّه “ليست لدينا قدرة على التحمّل، فتعرفة الوزارات للمسنّين غير كافية، أمام الغلاء المعيشي الذي نعيش في ظله اليوم”.
يُعد كبار السنّ الفئة العمريّة الأكثر حاجة إلى الدواء، ويُجمع كلّ المسؤولين في دور المسنين في لبنان على صعوبة حصولهم على الأدوية التي يحتاجها كلّ مسنّ.
في طرابلس (شمال) يعاني القيّمون على “بيت الشيخوخة”، الّذي يضمّ نحو 35 عجوزًا، من صعوبة الحصول على الأدوية الخاصّة بالنّزلاء – وفق قول إحدى العاملات التي طلبت عدم كشف اسمها- ويحاولون تأمين أدوية بديلة عنها.
انعكست أزمة المحروقات -وتحديدًا المازوت- في لبنان على عمل مختلف القطاعات، كالأفران التي توقّف عدد منها عن العمل جرّاء نفاد مخزونه من المازوت وعدم قدرته على تأمين بديل.
“دار الأمان” عانى من هذه الأزمة، إذ لم يستطع مؤخرا تأمين الخبز للمسنّين، إلى حين استطاعة القائمين على الدار تأمينه مجددا، بحسب المسؤولة فيه.
ولم تخفِ حيدر إقدامهم على تغيير جزء من العادات الغذائية في الدار، فبدل تقديم اللحم المشوي أكثر من مرة أسبوعيا بات يقدّم مرة واحدة.
وتضيف “نحاول إيجاد بدائل عن اللّحوم التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني (تجاوز سعر الكيلوغرام 150 ألف ليرة لبنانيّة)، وبتنا مثلًا نقدّم الدجاج بدل اللحم (الأحمر)”.
بدوره يركّز شبارو على أن “دار العجزة الإسلامي حاول قدر الإمكان الحفاظ على النظام الغذائي ذاته، على الرغم من ارتفاع الأسعار الجنوني، فمن المعلوم أنّ طعام العجزة محدود، وعليه أن يحتوي على الفيتامينات التي تحتاجها أجسامهم”، جازمًا بأنّه “لا يمكن تغيير النظام الغذائي”.
وتتحدّث حيدر عن معاناة من نوع آخر في دور العجزة، وتشكو من أنّ “الموظّفين والأطبّاء والممرّضين (يبلغ عددهم 60 في ‘دار الأمان’)، لا يستطيعون الوصول إلى العمل بسبب أزمة البنزين”.
وتقول “لا يمكن الاستغناء عن الموظّفين أبدًا، لأنّ المسنين بحاجة إلى المتابعة بشكل دائم ودقيق، لأنّهم عاجزون، فمنهم من لا يستطيع الأكل ودخول المرحاض والمشي بمفرده”.
وتلفت إلى أنّ “الموظّفين لا يستطيعون الاستمرار على هذه الحال”.
وأوضاع الموظّفين في دور العجزة في مختلف المناطق اللبنانيّة متشابهة، إذ يرى مارون أيضًا أنّه “لا يمكن إبقاء رواتب الموظّفين على حالها، وإلّا فلن يأتوا إلى العمل وسنكون أمام مشكلة من نوع آخر”.
إذًا، الوضع في دور العجزة هو صورة مصغّرة لما يعيشه المواطن اللبناني يومياً.
ويقول شبارو “نعيش كلّ يوم بيومه، وهذا الأمر خطير جدًّا”، مشدّدًا على “أنّنا لا نطلب سوى أن نعيش بكرامة، بحيث نستطيع تأمين كلّ ما نحتاجه للمسنّين بسهولة”.
من جهته يدعو مارون الدولة إلى “إعادة النظر في التعرفة اليوميّة للمسنّ، لكونها زهيدة جدًّا، بالإضافة إلى عدم التأخّر في تسديد الأموال لهذه المؤسّسات”، متمنّيًا أن تقوم الدول الخارجيّة والجمعيّات بمد يد المساعدة و”التعاون أيضًا لتأمين الدعم لمصلحة المسنّ”.
ويشدّد على أنّ “التحدّيات كبيرة، ولا أعرف كم من الممكن أن نصمد بعد اليوم، فالوضع الذي نمرّ به في البلد أكبر من قدرتنا على التحمّل”.
وعلى الرغم من كلّ المعاناة التي يعيشها المسؤولون في الدار لم يشعر المسنّون المقيمون بالأزمة بشكل مباشر، وفق مارون.
ويؤكّد أنّه “ثمة تحدٍ كبير أمامنا، وهو أن نبقي المسنّين يعيشون بكرامة ولا يلمسوا الصعوبات التي نعانيها، فالخدمة التي كنّا نقدّمها لهم لا تزال ذاتها”.