لبنان ضحية خلافات داخلية مثقلة بأجندات خارجية

ثورة أكتوبر أخرجت الصراع من دوائر الحسابات الطائفية التقليدية إلى الاحتجاجات الاجتماعية.
السبت 2020/01/11
انتفاضة تثور على السائد

تبدو الأزمة المندلعة في الأشهر الأخيرة في لبنان عقب موجة الاحتجاجات، اجتماعية صرفة غير مبالية بما عاش على وقعه البلد طيلة عقود من صراعات طائفية أو سياسية. لكن وعلى الرغم من وجود شبه إجماع لبناني يحمّل ساسة البلد مسؤولية تردي الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، أي أن المشكلة داخلية بحتة، فإن جل المراقبين يؤكدون على صحة هذا الرأي، على الرغم من أنهم يشددون في المقابل على أن عمق الأزمة هو نتاج لخلافات داخلية أملتها صراعات أجندات خارجية متعددة الأبعاد لا تأبى مغادرة جسد لبنان منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

بيروت – يقر خبراء في الشؤون الاستراتيجية أن الأزمة الحالية في لبنان ليست نتاج عقم داخلي فقط، بل المعضلة تتعلق بأجندات خارجية تتقاطع وتتنافر، بحيث تمنع إرساء صيغة استقرار في البلد.

ويؤكد هؤلاء أن لبنان تاريخيا كان ميدان صراع بين القوى الإقليمية في ما بينها، وبين هذه القوى أو بعضها والقوى الدولية الكبرى.

ودار صراع في لبنان خلال العقود الأخيرة لا يمكن إدراجه إلا داخل سياق الحرب الباردة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي، وداخل صراع تيارات سياسية عربية، لاسيما بين الخط الثوري الاشتراكي القومي من جهة، والخط المحافظ من جهة أخرى.

واندلعت في لبنان “ثورة” عام 1958، التي لم تكن في الواقع إلا نتاج عناد أطراف في المنطقة متحالفة مع الاتحاد السوفياتي ضد حلف بغداد الذي كان جزءا من سياسة الولايات المتحدة في المنطقة. وكثيراً ما ارتبط التدخل العسكري الأميركي في لبنان ذاك العام مع الانقلاب الذي أطاح بالملكية بالعراق على يد نظام اعتبرته واشنطن معاديا وقريبا من موسكو آنذاك.

تشابك القوى الدولية

لطالما استند الحكم في لبنان على معادلة تتقاطع بها القوى الإقليمية مع تلك الدولية. ويذكر اللبنانيون أن المرحلة الشهابية (برئاسة فؤاد شهاب) التي راجت في الستينات بعد عهد الرئيس كميل شمعون، جاءت نتاج نقطة توازن بين الناصرية التي راجت في المنطقة، وفي سوريا خصوصا، إبان مرحلة الوحدة المصرية السورية، والغرب عموما، الذي كانت تمثل فرنسا أبرز واجهاته بالنسبة إلى الشأن اللبناني.

ويعرف الخبراء مدى التدخل الخارجي وتنافر وتعدد الأجندات في الحرب الأهلية التي اجتاحت لبنان (1975-1990)، وأن انتهاء هذه الحرب حصل بقرار خارجي أيضا تم إخراجه من خلال اتفاق الطائف (1989)، وخصوصا عبر رعاية أميركية – إسرائيلية لتدخل عسكري سوري عام 1976 أسس لنظام وصاية دمشق على بيروت حتى خروج القوات السورية من لبنان إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005.

ولا يشك اللبنانيون لحظة هذه الأيام بمدى انعكاس الإرادات الخارجية على الحاضر اللبناني ومدى ارتهان حل أزمتهم للانفراجات المتوخاة إقليميا، لاسيما تلك المتعلقة بسوريا بصفتها دولة حدودية، وبإيران بصفتها الدولة صاحبة النفوذ المباشر في لبنان من خلال حزب الله الذي لا يخفي ولاءه الكامل للقرار في طهران.

بيد أن اندلاع الحراك الشعبي في الـ17 من أكتوبر الماضي أعاد الاعتبار للعامل الداخلي بصفته قادرا على تعويم العامل الداخلي وجعله أولوياً وربما مؤثراً في الإرادات الخارجية.

ويقول الصحافي والكاتب السياسي عبدالوهاب بدرخان إن “ثورة أكتوبر في لبنان فرضت جدول الداخل وأجنداته”، مضيفا أن “فشل الدولة اللبنانية في فرض سياسة النأي بالنفس جعل البلد في مهب الريح”.

ويرى المراقبون أن الأشهر الأخيرة أفرجت عن صراع لا سابق له في تاريخ لبنان بين الدولة والشعب، بين الحاكم والمواطن، بعيدا عن الحسابات الطائفية والمذهبية التقليدية. ويلفت هؤلاء إلى أن تلك السابقة جعلت أمر معالجتها أمراً عصيا لعدم وجود مقاربات سابقة جاهزة للتعامل معها.

لبنان تاريخيا كان ميدان صراع بين القوى الإقليمية والدولية الكبرى المتمرسة في الشرق الأوسط منذ الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية

ويذكّر أنطوان سعد، وهو ناشر وباحث في الشؤون السياسية، أن “الموقع الجغرافي والتركيبة الداخلية للبنان تجعله مفتوحاً على الصراعات الإقليمية”، ذلك أن البلد على حدود إسرائيل وسوريا وهو واجهة بحرية على البحر المتوسط غير بعيد عن قبرص الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، ناهيك عما يمثله لبنان هذه الأيام من أهمية مستجدة تتعلق بحقول الغاز المحتملة في مياهه وخطوط توزيعه نحو العالم.

ويعتبر سعد “أن المتظاهرين في لبنان لا يمتلكون أجندات دولية”. غير أن هذه الرؤية تتناقض مع تلك التي رأت فيها إيران الاحتجاجات في إيران والعراق ولبنان. وقد كرر أمين عام حزب الله التشكيك بهذه الاحتجاجات التي اعتبرها عادلة ومبررة، لكنه وصفها بأنها تابعة لأجندات خارجية وتمولها سفارات غربية.

ويعيد بدرخان أمر أزمة لبنان في جانب كبير منها إلى إيران ويعتبر أن “الوجود الإيراني في لبنان ساهم في تراجع رغبة العرب بالتدخل في لبنان”.

ويلـمّح بدرخان بذلك إلى حالة ارتخاء وربما إهمال عربي للشأن اللبناني كما كان ذلك ساريا بالنسبة إلى العراق بعد غزو عام 2003. ويذهب سعد أكثر من ذلك في الإشارة إلى وهن الموقف الدولي بالنسبة إلى تدخل إيران في لبنان ملاحظا أنه “على الصعيد الدولي العام هناك تباين بالنسبة إلى حزب الله في لبنان”.

ويبدو لبنان مع ذلك محط اهتمام دولي. فالولايات المتحدة مستمرة في دعم المؤسسة العسكرية اللبنانية ومهتمة بالحفاظ على استقرار النظام المصرفي ومنعه من أن يوفر شبكة مالية للأنشطة الاقتصادية لحزب الله. كما أن الولايات المتحدة مهتمة بترتيب أمر النزاع الحدودي، البري والبحري، بين لبنان وإسرائيل، ومهتمة، كما دول أخرى مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا، بالاستثمار في قطاع الغاز الواعد في هذا البلد.

وتسعى فرنسا إلى استعادة دورها الخاص والمتميز والتاريخي في لبنان. ولطالما اعتبرت فرنسا “الأم الحنون” للبنان، وهي التي رعت مؤتمر سيدر للمانحين الدوليين الذي يعد بضخ 11 مليار دولار من الاستثمارات في لبنان إذا ما تمكن البلد من ضبط موازنته والالتزام بمعايير الشفافية ومكافحة الفساد.

ويرى طارق زياد وهبي، وهو خبير في الشؤون الفرنسية والعلاقات الدولية “أن جزءا كبيرا من مشروع سيدر في لبنان له علاقة باللاجئين السوريين”، بما يلفت إلى المعضلة الكبيرة جراء تواجد أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري في لبنان، بحيث أن أوروبا تخشى سقوط لبنان في العبث والفوضى على نحو قد يدفع بقنبلة اللاجئين نحو الشواطئ الأوروبية.

ويضيف وهبي أن “فرنسا خائفة من أيّ صدام بين حزب الله وإسرائيل في لبنان”. ولا شك أن ارتفاع نسب التصعيد في المنطقة بعد اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني يعظّم خطر نشوب حرب كبرى قد يكون لبنان مسرحاً لها.

روسيا وافد جديد

أزمة متواصلة
أزمة متواصلة

يعتبر المراقبون أن روسيا التي تمسك تماما بالمسرح السوري وتقود مساره العسكري والسياسي، باتت تنظر إلى لبنان نظرة جديدة في السياسة الخارجية التقليدية الروسية. ويقول الخبراء في الشؤون الروسية أن مستقبل لبنان مرتبط بمستقبل سوريا وأن طبيعة الأجندة التي تعدّ لها موسكو في دمشق لا بد أن تتأثر وأن تؤثر بطبيعة الحكم في بيروت.

ويقول يفغيني سيدروف، وهو محلل سياسي روسي إن “روسيا لا تنظر إلى لبنان من زاوية ما يحدث في سوريا فقط “، وأنها “تريد استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في لبنان”، على أساس أن الأمر بات ضرورة استراتيجية لروسيا بحيث لا يشوش الشأن اللبناني على خارطة الطريق التي ترسمها موسكو في سوريا.

ولفت المراقبون إلى بداية تدخل روسي في الشؤون الداخلية اللبنانية، لا سيما تلك المتعلقة بتشكيل حكومة جديدة.

وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ردّا على سؤال حول ما يطرح عن تشكيل حكومة تكنوقراط، أن حكومة من هذا النوع ليست “أمرا واقعياً”. وقد اقتربت موسكو في ذلك من موقف حزب الله الذي كان رافضا لهذه الفكرة تماما، قبل أن يقدم تنازلات مفاجأة حين كلف حسان دياب بتشكيل الحكومة.

ويفسر سيدروف موقف لافروف بأن “تشكيل حكومة تكنوقراط قوية في لبنان يحتاج إلى منحها صلاحيات استثنائية”، وهو أمر كان طالب به رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري لتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين.

6