لا وجود لأمة دون وجود روح الأمة: الأكراد مثالا

بينما تتأهب تركيا الأردوغانية للانقضاض من جديد على الأكراد في شمال وشمال شرقي سوريا لتقويض ما تبقى لهم من آمال في التمتع بالحقوق في إطار سوريا المستقبلية المأمولة، أبدت بعض القوى السياسية الكردية في سوريا وخارجها تأييدها الضمني للخطوة التركية.
بعض أنصار تيار "البارزانية" في كردستان سوريا، مثل بعض القيادات البارزة في "المجلس الوطني الكردي في سوريا" التابع لأربيل وأنقرة، لا يجدون غضاضة في دعم تركيا في مسعاها نكاية بخصومهم اللدودين، أي الآبوجيين أو الأوجلانيين الذين يقودون الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). وأوضح بعض الناطقين باسم هذا المجلس والقابعين في أربيل وأنقرة بأن المجلس الوطني الكردي في سوريا على استعداد لاستلام المنطقة حالما يتم تحريرها من قبل تركيا، في إشارة واضحة إلى أن هذه المناطق هي محتلة من قبل أشقائهم الأعداء أي الآبوجيين أو الأوجلانيين.
لقد سلك هؤلاء نفس المسلك إبان احتلال تركيا لمدينة عفرين في مارس 2018 وسرى كانيه (رأس العين) وكرى سبي (تل أبيض) في أكتوبر 2019 حيثُ وصفوا الاحتلال التركي آنذاك بالتحرير، في إشارة إلى أن قوات حماية الشعب الكردية والتي تشكل العمود الفقري لقسد كانت محتلة لتلك المناطق قبيل الغزوات التركية.
هذا الانقسام السياسي والمجتمعي الأفقي والعمودي الحاد والمزمن يحيلنا إلى التشكيك في وجود روح للأمة الكردية وبالتالي في وجود أمة كردية بحد ذاتها. يقول الطبيب والمؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "سر تطور الأمم" "الأمة تحتاج إلى زمن طويل لتبلغ ذروة الكمال الممكن، لكنها لا تحتاج سوى زمن قصير لتنحط نحو الدرك الأسفل". ويشرح لوبون بأن ذروة الكمال تكمن في تبلور ما يمكن تسميته "روح الأمة" التي تتجسد في الانتماء الوطني العام الشامل واللامحدود، وليس في الانتماء الخاص المنغلق والمحدود. ويُكمّل شارحا بأن روح الأمة لا تتشكل إلا عبر قرون وعصور، ويعطي مثالا عن روح الأمة الفرنسية التي تشكلت بعد مخاضات عسيرة استغرقت قرونا وعصورا.
وأهم ما يميز روح الأمة حسب وجهة نظر لوبون هو الانتماء العام والأخلاق الرفيعة والتضامن بين أبناء الأمة الواحدة، خاصة في وجه المخاطر الخارجية. لمسنا هذه الروح عندما تعرضت فرنسا خلال 2020 إلى هجمات إرهابية من قبل بعض المتشددين الإسلاميين، وكيف وقفت فرنسا عن بكرة أبيها في وجه تلك الموجة الإرهابية على المستويين الشعبي والرسمي ابتداء من اليسار الوسط مرورا باليسار المتطرف وصولا إلى اليمين الوسط والمتطرف. كذلك تجسدت روح الأمة لدى الأوكرانيين والروس على حد السواء أثناء الحرب الروسية - الأوكرانية الحالية بصرف النظر إذا كنا من المنبهرين أو الناقمين.
الانقسام السياسي والمجتمعي الأفقي والعمودي الحاد والمزمن يحيلنا إلى التشكيك في وجود روح للأمة الكردية وبالتالي في وجود أمة كردية بحد ذاتها
بالمقابل، عندما غزت واحتلت تركيا مدن عفرين وسرى كانيه وگرى سپي في كردستان سوريا، لم يحدث إجماع بين القوى السياسية الكردية في سوريا حول إدانة تلك الخطوة ووصفها بالغزو والاحتلال. بعض القوى الكردية المحسوبة على أربيل في كردستان العراق كانت ومازالت سعيدة بهذا الاحتلال، لا بل وصفت تلك المناطق المحتلة بالمناطق المحررة نكاية وانتقاما من غريمها السياسي، حزب الاتحاد الديمقراطي الموالي للعمال الكردستاني وقيادته في جبال قنديل.
نفس الآفة موجودة في إقليم كردستان العراق حيال التوغل والاحتلال التركي لمساحات شاسعة من أراضي الإقليم. البعض داخل الإقليم يعتبر الخطوة التركية احتلالا، بينما البعض الآخر وخاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل لا يعتبرها كذلك. النتيجة واستنادا إلى نظرية لوبون في الأمة، فإنه لا توجد روح للأمة الكردية، وبالتالي الشكوك تلقي بظلالها على وجود أمة كردية بحد ذاتها بالمعنى والسياق العلمي والفلسفي والأكاديمي للمصطلح، وليس بالمعنى والسياق العاطفي والأمنياتي.
بعض الأقلام الكردية تحاول تسويغ غياب روح الأمة الكردية وربطها بلعنة الجيوسياسة التي قسمت الأكراد بين دول قديمة ومستحدثة وما تمخض عن ذلك من عداوات كردية - كردية قسرية وليست طوعية لانعدام وندرة الخيارات. لكن الكثير من المستشرقين الذين تناولوا الأكراد كشعب وقضية، والتي أغضبت انطباعاتهم واستنتاجاتهم النخب الكردية، يبرهنون بأن التخلف والتناحر والهشاشة المجتمعية والانشطارات العميقة التي كانت تنخر الذات الجمعية لدى الكرد تعود إلى ما قبل التبدلات الهائلة التي طرأت على خارطة المنطقة بعيد الحرب العالمية الأولى وإثر انهيار تركة الرجل المريض.
لا توجد أنا أو ذات كردية جمعية أو جماعية واحدة، وبدلا من ذلك توجد ذوات كردية جمعية متعددة ومتقاتلة، وبالتالي مصالح كردية - كردية متضاربة. الهوية الكردية الواحدة والانتماء الكردي الواحد موجودان فقط على الصعيد النظري والعاطفي والأمنياتي والافتراضي وفي القصائد والأغاني، لكن واقعيا هناك هويات كردية متناقضة وانتماءات كردية متنافرة يلعب فيها الحزب والقائد والمنطقة والعشيرة والعائلة الدور المحوري.
وجود الذوات الكردية الجمعية غير المتناغمة بدل الذات الكردية الجمعية الواحدة، والهويات الكردية الجمعية المتعاكسة بدل الهوية الكردية الجمعية الواحدة، والانتماءات الكردية الجمعية غير المتجانسة بدل الانتماء الكردي الجمعي الواحد يعكس غياب روح الأمة الكردية، وغياب الأخيرة يوحي إلى عدم وجود الأمة الكردية ذاتها بالمعنى الفلسفي والأكاديمي للمصطلح، وليس بالمعنى العاطفي.
والسبب لا يكمن فقط في العامل الجيوسياسي الذي بعثر الكرد ووطنهم بين عدة دول في المنطقة وحرمهم من الاستقلال كما يحلو لمعظم الكُتَّاب الأكراد ترديد ذلك، هذه البعثرة التي كان للكرد أنفسهم دور فيها، وإنما يرجع إلى طبيعة ونفسية وثقافة الإنسان الكردي نفسه التي تأبى التكاتف والتعاضد والتلاحم الذاتي وتميل نحو الشقاق والتشرذم والخصام والاستنجاد بالعدو للنيل من الشقيق. وبالتالي، إذا كانت كردستان مقسمة إلى أربعة أجزاء بين أربع دول، فإن كل جزء بحد ذاته مقسم إلى العشرات من الأجزاء بين سكانها الكرد وقواهم الحزبية والقبائلية والعشائرية والعوائلية والمجتمعية الأخرى.
لا توجد أنا أو ذات كردية جمعية أو جماعية واحدة، وبدلا من ذلك توجد ذوات كردية جمعية متعددة ومتقاتلة، وبالتالي مصالح كردية - كردية متضاربة
التاريخ الكردي في التشرذم والشقاق والخيانة والتخوين يواظب على إعادة نفسه باستمرار. وإذا كان كارل ماركس يقول إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة، فإن التاريخ الكردي يكرر نفسه ثلاث مرات وبثلاثة تمظهرات متداخلة ومتشابكة: مأساة ومهزلة وعبثية. وترحاب بعض القوى والشخصيات السياسية الكردية في سوريا وخارجها بالغزو التركي المرتقب ضد مناطق كردية جديدة في سوريا أو عدم إدانة ذلك بشكل واضح وصريح ما هو سوى نموذج طازج من مأساة ومهزلة وعبثية تكرار الكردي لتاريخه، هذه العاهة التي توارثها من الأسلاف.
وفي هذا السياق يقول لوبون “الأمة مُسيِّرة بتأثير أمواتها أكثر مما هي مسيرة بتأثير أحيائها. والأولون هم وحدهم الذين كونوها وهم الذين أوجدوا ما في الأحياء من الأفكار والمشاعر قرنا بعد قرن، وإليهم ترجع حركة أهل العصر لأن هؤلاء لا يخضعون لمزاج أسلافهم المادي وحده بل هم متأثرون أيضا بما كان لآبائهم من المشاعر والأفكار".
"أمة في شقاق"، "لا أصدقاء سوى الجبال"، "أمة غير مرئية"، وغيرها، عناوين لكتب توجز محتواها ليس فقط مأساة الكرد مع الآخر أو النابعة من الآخر، لكنها توحي أيضا إلى مأساة الكرد مع الذات، وكيف أن السياسات التي انتهجها قادة وساسة الكرد في كثير من الأحايين كانت تدميرية وأكثر إيلاما من ضربات الآخرين. لكن إذا سألت الكردي عن مضامين ومرامي هذه الكتب وأشباهها، فستكون استنتاجاته مصوبة نحو الآخر فقط بما أن نقد وتوبيخ وفضح وتعرية الذات لديه تعتبر من العيوب والمحرمات.
إذا لم يبدأ الكردي من ذاته وبذاته، أي من فهم دور قادته ورموزه وساسته ونخبه في خلق مآسيه التي تتكرر وتتجدد باستمرار، وإذا واظب على الانطلاق من الآخر فقط، فسوف يُخلّد في الحلقة المفرغة التي وضع نفسه فيها بنفسه حتى أدمن عليها وتأبّد فيها.
لا وجود لما يمكن تسميته بروح الأمة لدى الكرد وبالتالي لا وجود لأمة كردية واضحة المعالم والملامح استنادا إلى المعايير والمقاييس العلمية للمصطلح والتي تتجسد في الأسس الآتية: المشاعر العامة المشتركة، والمنافع العامة المشتركة، والمعتقدات العامة المشتركة.