لا مكان للعدالة اللغوية في الجزائر
«العدالة اللغوية» لا مكانة لها في الجزائر، فالبلد مقسّم، منذ الاستقلال (1962)، إلى تجمّعين لغويين اثنين: الأوّل ناطق بالعربية، والثّاني بالفرنسية، وبينهما أقلية (حوالي 3 مليون شخص) ناطقة بالأمازيغية. وكلّما نشر كاتب نصاً له بالعربية أضاع على نفسه فرصة ملاقاة مواطنه القارئ الفرنكفوني، وكلّما نشر بالفرنسية فقد الوصل مع القارئ بالعربية، لهذا تصير التّرجمة الأدبية، داخل الجغرافية الواحدة، حتمية للتّقريب بين قراء البلد الواحد، وهو ما يقوم به المترجم مارسيل بوا (1925-)، منذ أربعين عاماً، بنقل روايات من العربية إلى الفرنسية، ويمنحها بذلك حياة أخرى، وجمهوراً أرحب.
مارسيل بوا وصل إلى الجزائر في لحظة فارقة، في صيف 1961، أي أشهراً قبل إعلان وقف إطلاق النّار ثم الاستقلال، ففي وقت كان فيها الفرنسيون يغادرون جماعات البلد، قرر مارسيل الاستقرار هناك، بعد إقامتين قصيرتين في تونس ثم في بيروت، تعلّم فيهما قواعد اللغة العربية (بدءًا من عام 1958)، ليتمّ لاحقاً ليسانس في الأدب العربي في جامعة الجزائر(بعد ليسانس في الأدب فرنسي من جامعة ستراسبورغ). ليعمل، في البداية، كمدرّس مناوب، ثم مدرّس بدوام كامل في ثانوية بالجزائر العاصمة، بين عامي 1969 و1986، سنة إحالته على التّقاعد.
في السّنوات السبع عشرة التي عمل فيها كمدرّس للفرنسية، كان مارسيل بوا قد أكد حضوراً لافتاً له في المشهد الأدبي، في البلد، بترجماته أولاً لروايات عبدالحميد بن هدوقة (1925-1996)، ثم الطّاهر وطار(1936-2010)، ولاحقاً كتابا آخرين، وما يزال إلى اليوم، رغم تقدّمه في السّن، معتكفاً في «ديره» بالجزائر العاصمة، مواصلاً الاشتغال على ترجمة كتّاب جزائريين معاصرين، فهو عميد المترجمين في الجزائر، وأكثرهم وقاراً وصمتاً، بالكاد نسمع له صوتاً في الميديا، وإن تحدّث فهو يكتفي غالبا بالحديث عن الأدب، ولا شيء آخر غير الأدب.
يشتكي بعض الكتّاب الجزائريين باللغة العربية من نقص الاهتمام بأعمالهم، وعدم الانتباه إلى ترجمتها للفرنسية، على خلاف الاهتمام الذي تعرفه كتابات أدباء من المشرق العربي، بالمقابل، تردّ دور نشر فرنسية بأن الجزائر حاضرة في المكتبات بأدبائها الفرنكفونيين، الذين يقدّمون الأشياء نفسها أو أفضل أحياناً، وأن ترجمة ما يكتب بالعربية، في الجزائر، لن يُضيف الشيء الكثير للقارئ الفرنسي، وعكس ذلك يذهب مارسيل بوا نحو ترجمة ما يصدر بالعربية في الجزائر، وتقديمه للقارئ، مقتنعاً بالفروقات الكبيرة بين ما يكتب بالعربية وما يكتب بالفرنسية في البلد الواحد، هذه القناعة التي ترسّخت، خصوصاً، في العقدين الماضيين، حيث بدأت الجزائر في التّحرّر تدريجياً من الإرث الثقافي الفرنسي، وصارت تمتلك أدباً ناطقاً بالعربية مستقلاً ومختلفاً وأكثر عمقاً في تعامله مع خصوصيات البلد.
الرّواية الجزائرية النّاطقة بالعربية تأخرت -نسبياً- في الظّهور مقارنة بنظيرتها النّاطقة بالفرنسية (عام 1950، ظهرت أول رواية جزائرية بالفرنسية «نجل الفقير» لمولود فرعون)، وانتظر الدّارسون عام 1971، لتصدر الرّواية الأولى لعبدالحميد بن هدوقة: «ريح الجنوب»، التي لم تتأخر في الصدور في نسخة فرنسية، مشكّلة عتبة في مشروع مارسيل بوا التّرجمي، الذي ترجم روايات بن هدوقة الأخرى وهي «نهاية الأمس»، «بان الصّبح»، «جازية والدّراويش» وأخيراً «غداً يوم جديد»، وارتبط بوا مع بن هدوقة بصداقة متينة، كانا «توأماً أدبياً»، سافرا في الدّاخل وفي الخارج، وفي كلّ أسفارهما كان الأدب الجزائري حاضراً في حقائبهما.. بعد رحيل بن هدوقة، ثم اختلافه مع الطّاهر وطار، بسبب تصريح غير مسؤول من هذا الأخير تجاه الرّوائي الشّهيد الطاهر جاعوط (1954-1993)، قال فيه إن اغتياله من طرف الجماعات الإسلامية كان خسارة لفرنسا وليس للجزائر، واصل مارسيل بوا عمله في ترجمة كتّاب آخرين، على غرار إبراهيم سعدي، الذي ترجم له رواية «بوح الرّجل القادم».
اليوم، يتوارى اسم مارسيل بوا، فهو زاهد في علاقاته مع الإعلام، ومع صانعي الثّقافة، أجيال من القراء ومن الباحثين كبرت وهي تقرأ ترجماته، وتستفيد منه، من دون أن تعلم إن كان الرّجل حياً أو غير ذلك، أو إن كان يعيش في الجزائر أو خارجها، فمارسيل بوا يترجم في صمت، منصتاً لعزلته المختارة، يعيش بين مكتبه المكتظ بمخطوطات الترّجمة وحديقة، نادراً ما يستقبل أصدقاء أو كتّابا، يمنّي نفسه، بعد كلّ ما قام به، بعمر أطول لإتمام ما يلزم أن يترجم من الأدب الجزائري، المكتوب بالعربية للفرنسية.
كاتب من الجزائر