لا مجال لسيادة وطنية مع التغيّر المناخي المتسارع

تقود التغيرات المناخية العالم نحو تغير غير مسبوق في البيئة وتدفع المجتمعات نحو مراجعة سلوكها الحياتي، لكنها تسير نحو إحداث تغيرات كبرى في السياسة الدولية حيث تلغي مبدأ “السيادة الوطنية” وعدم التدخل في الشؤون المحلية للدول انطلاقا من أن الانبعاثات الكربونية التي تصدر في الصين أو في أي دولة أخرى تمثل خطرا جماعيا وتمتد تأثيراتها إلى العالم كله وليست شأنا محليا.
نيويورك – صار الحديث عن ظاهرة التغير المناخي يتجاوز تداعياتها على البيئة ومستقبل الحياة الإنسانية إلى الحديث عن تداعيات هذا الوضع البيئي الخطير على السياسة الدولية، حيث يفترض محللون أنه سيقود إلى تغيير نمط العلاقات الدولية الذي نعرفه على مدى حوالي أربعة قرون.
ويقول المحلل الألماني أندرياس كلوته إن “هذا التحول في العلاقات الدولية قد يكون حتميا، وربما ضروريا، لكنه سيؤدي إلى نزاعات جديدة وبالتالي إلى حروب ومعاناة”.
حجة الإنسانية
منذ صلح ويستفاليا عام 1648 يؤيد الدبلوماسيون -سواء في السلم أو في الحرب- مبدأ السيادة الوطنية. هذه الفكرة تتجسد في ميثاق الأمم المتحدة الذي يقضي بأنه ليس من حق الدول الأجنبية “التدخل في الأمور التي تقع أساسا ضمن الاختصاص المحلي للدولة”.
جاء مفهوم “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول” -ومع نظام الدول الحديثة ككل- على الأنقاض المادية والنفسية التي خلفتها حرب الثلاثين عاما في أوروبا.
وبدءا من 1618 كان تدخل القوى الأوروبية في أراضي بعضها البعض يتم بشكل شبه اختياري. ولكن الحرب التي دامت جولات عديدة على مدى ثلاثة عقود أدت إلى مقتل نحو ثلث سكان القارة الأوروبية. لذلك رأى رجال الحكم في القارة أنه من الأفضل أن تهتم كل دولة بشؤونها ولا تسعى للتدخل في شؤون الدول الأخرى.
ورغم أن أحدا لم يقتنع بأن اتفاق ويستفاليا سيكون نهاية للحروب فإن الجميع اعترفوا بمبدأ سيادة الدول على أراضيها وشؤونها، وأقر هذا النظام بحق الدول في السعي وراء مصالحها التي قد تؤدي إلى الصدام. لكن على الأقل أتاح الاتفاق الجديد فرصة منع إراقة دماء أخرى بصورة عشوائية.
ورغم ذلك لم يكن احترام مبدأ السيادة الوطنية كاملا ولا مطلقا. فعلى مدى وقت طويل كانت الحجة الأكثر مثالية التي تستخدم للتدخل في شؤون دولة أخرى هي “الإنسانية”؛ حيث ترى بعض الدول أنه ليس فقط من حقها، بل من واجبها التدخل في دولة أخرى إذا كانت ترتكب فظائع مثل عمليات الإبادة الجماعية، بحسب كلوته رئيس التحرير السابق لصحيفة هاندلسبلات غلوبال الألمانية ومؤلف كتاب “هانيبال وأنا”.
صناع السياسة مستغرقون في تحليل أنواع جديدة من الصراع سيسببها الاحتباس الحراري داخل الدول أو بين بعضها البعض
والآن -وبعد مرور نحو أربعة قرون على ظهور فكرة السيادة الوطنية للدول- يرى بعض المفكرين مثل ستيوارت باتريك من مجلس العلاقات الخارجية الأميركي أن هناك حجة أقوى ضد مبدأ السيادة وهي ظاهرة الاحتباس الحراري التي باتت تهدد الكوكب كله، وبالتالي فإنه لم يعد ممكنا الدفاع عن مبدأ السيادة الوطنية.
وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء أشار كلوته إلى أن هذه الرؤية تظهر بوضوح لدى العديد من الوفود المشاركة في قمة الأمم المتحدة للمناخ “كوب 26” في مدينة غلاسكو الأسكتلندية. فما هو مطروح على مائدة المفاوضات في هذه القمة لا يتعلق بمصلحة “وطنية” لأي دولة بقدر ما يتعلق بمصلحة جماعية على المشاع للعالم كله، وهو الغلاف الجوي والمحيط الحيوي للأرض. ورغم احتمال اعتراض سلطات المراقبة الجوية فإن الحدود والولاية القضائية لأي دولة لا تمتد إلى غلافها الجوي.
فالانبعاثات الكربونية التي تصدر في الصين أو الولايات المتحدة أو الهند تتسبب في تسريع وتيرة تغير المناخ في كل مكان من العالم وليس فقط داخل حدود تلك الدول. هذا التغير المناخي الناجم عن الانبعاثات الكربونية تسبب في الفيضانات التي ضربت ألمانيا وحرائق الغابات في أستراليا والمجاعات في أفريقيا، وغرق جزر في المحيط الهادئ. لذلك فإن لكل شعوب العالم مصلحة شرعية في التعامل مع الغازات المسببة للاحتباس الحراري في أي مكان تنبعث منه مهما كانت الولاية القضائية.
تحوّل مبكر
ظهر هذا التحول المبكّر والمأساوي في العلاقات الدولية عام 2019 عندما تفجر خلاف بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره البرازيلي جاير بولسونارو. ففي ذلك الوقت كان بولسونارو السياسي الشعبوي يسمح بإشعال الحرائق وإزالة مساحات واسعة من غابات الأمازون في بلاده التي تعتبر “رئة العالم” التي تساعد على التخلص من غازات ثاني أكسيد الكربون وإنتاج الأوكسجين.
وفي حديثه نيابة عن الكثيرين اتهم ماكرون نظيره البرازيلي بالحضّ على “إبادة بيئية” على وزن “الإبادة الجماعية”. ورد بولسونارو بالقول إن ماكرون “استعماري جديد” ووجه اتهامات جنسية إلى زوجة الرئيس الفرنسي.
وكانت قضية السيادة هي محور الخلاف بين ماكرون وبولسونارو. فهل الغابات المطيرة الموجودة في البرازيل شأن برازيلي أم شأن عالمي؟ وفي حال سيناريو مستقبلي افتراضي، هل سيكون في مقدور تحالف دولي تقوده فرنسا إعلان الحرب على البرازيل لمنع عمليات “الإبادة البيئية” وبالتالي انتحار البشرية؟ ولحسن الحظ تعهدت مؤخرا 100 دولة -من بينها البرازيل- بالتعاون على حماية الغابات.
لكل شعوب العالم مصلحة شرعية في التعامل مع الغازات المسببة للاحتباس الحراري في أي مكان تنبعث منه
هذا الاتفاق يفتح خطا جديدا للتفكير في الشؤون العالمية. وبالفعل فإن صناع السياسة مستغرقون في تحليل أنواع جديدة من الصراع سيسببها الاحتباس الحراري داخل الدول أو بين الدول وبعضها البعض، بما في ذلك حروب المياه واختفاء الأراضي الصالحة للزراعة والهجرات الجماعية.
وسيسبب هذا التراجع التدريجي لمبدأ السيادة الوطنية وفقا لمعاهدة ويستفاليا -باعتباره الإطار الحاكم للعلاقات الدولية- المزيد من الاضطرابات. وهذا الأمر يبدو حتميا؛ فبعض القوى والتحالفات ستفكر في التدخل العسكري ضد دول أخرى لمنع ما ستقول إنه “إبادة بيئية”. كما أن دولا أخرى قد تشن حربا إذا اعتقدت أن دولة منافسة لها تتخذ إجراءات أحادية تؤدي إلى تفاقم ظاهرة التغير المناخي بما يهدد مصالح تلك الدول.
وبالفعل يفكر مجلس الاستخبارات القومي الأميركي في ما يمكن أن يحدث إذا قامت دولة ما بضخ كميات هائلة من الغبار الجوي في طبقة الستراتوسفير من الغلاف الجوي. هذه العملية يمكن أن تؤدي إلى حجب أشعة الشمس ومنع وصولها إلى الأرض وبالتالي انخفاض درجة حرارة الكوكب كما يحدث في أعقاب ثورات البراكين الكبرى. كما أن هذا يمكن أن يؤدي إلى تغيير أنماط الطقس في دول أخرى وحرمانها من مصادر عيشها الطبيعية.
ويقول المحلل الألماني إن الوقت قد حان للتفكير في تلاشي مبدأ السيادة الوطنية. وربما يحتاج العالم إلى معادل بيئي لمنظمة التجارة العالمية، كهيئة دولية جديدة تستطيع حل اللغز الذي يواجهه العالم وتحاول الحفاظ على النظام العالمي.