لا أحد يموت من الجوع في مصر

لا أتذكر من قال هذه العبارة أو في أي سياق سمعتها، لكن من المؤكد أنها باتت من التراث المصري وكنا نرددها منذ الصغر كلما اشتدت الأزمة الاقتصادية على أسرة ما، والتي لم تنقطع ملامحها على مدار العقود الماضية، ربما ترتفع أو تنخفض لكنها لم تتوقف عن الدوران في محيط العديد من الأسر، وفي كل مرة يأتي صوت حكيم أو مغرض يدعو للتفاؤل بأنه “لا أحد يموت من الجوع في مصر”.
يكمن التفسير العلمي لهذه العبارة بلا تحديد لهوية من يرددها في أن كل شخص يقوم بتصريف أمره بالطريقة التي تناسبه، ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية في مصر عادت هذه العبارة تتردد على سبيل التطمين والراحة والإيمان بأن الفرج قادم. كيف، لا يهم.
وتعدد مصادر الأزمة الاقتصادية الحادة حاليا بين كونها ناجمة عن مشاكل مركبة في التخطيط وتحديد الأولويات وندرة في الموارد، بجانب أن البعد الدولي لعب دورا مهما في توسيع نطاقها ومصر ليست منفصلة عما يجري في دول عديدة من غلاء في الأسعار وقلة في الحبوب وشح في المواد الغذائية جراء الأزمة الأوكرانية.
وسط هذا الخضم يظل الفقير في مصر واثقا من أنه سوف ينجو، لكنه على يقين من أنه يمكن أن يموت لأسباب أخرى لا علاقة بينها وبين الشراب والطعام، حيث يستطيع أن يوفرهما بطرق شتى، بالمزيد من العمل أو برامج الحماية الاجتماعية التي توفرها الدولة أو الأفراد، أو الشحاذة في الشوارع والطرقات، ولا أحد في مصر يستطيع أن يمتنع عن إطعام شحاذ طلب أكلا أو شرابا إلا نادرا.
◘ تأتي خطورة الأزمة الاقتصادية من احتمال خروجها عن السيطرة، ومن كانوا يؤمنون بعبارة “لا أحد يموت من الجوع” سوف يموتون فعلا بسببه بطريقة مغايرة، ففكرة المجاعة تكاد تكون غير مطروحة في بلد يميل للتكافل والتعاطف،
يصلح الجزء الأخير لتفسير العبارة التي اتخذتها عنوانا لهذا المقال، غير أنه لا يكفي للقبول بالأزمة الاقتصادية والتسليم بروافدها وعدم البحث عن الأدوات الناجعة التي تخفف من آلامها، فالحكومة تعمل على إيجاد الوسائل اللازمة بطريقتها، والفقراء يجتهدون بأسلوبهم، وفي النهاية لم يُعلن أن مواطنا مات جوعانا في بلادنا.
بالطبع هذا لا يدعو للتفاخر أو الثقة في أن تصاعد الأزمة الاقتصادية سوف تكون عواقبه محمودة، لكن الغرض منه التأكيد أن لدى شريحة كبيرة من المواطنين قدرة عالية على التكيف مع الأوضاع المتأزمة، وهو ما يجعل الحكومة مطمئنة إلى أن قرارات زيادة الأسعار ورفع الدعم عن غالبيتها لن تقود لتمرد أو غضب في الشارع.
ورغم ما تعاني منه مصر لا توجد مشكلة في توافر أي من السلع الغذائية التي اعتاد عليها المواطنون، الأغنياء والفقراء، ولا توجد أزمة في جميع مصادر الطاقة، وكل الاحتياجات التي تمثل رفاهية لم تنقطع في خضم الأزمة الاقتصادية.
ما حدث أن هناك تعديلا في الأولويات والكميات نتيجة التغير الحاصل في القدرة الشرائية عقب تخفيض قيمة الجنيه بعد تحرير سعر الصرف، خاصة أن جزءا كبيرا من المواد التي يتم استهلاكها تأتي مستوردة من الخارج فتبدو أسعارها مرتفعة.
لم تعد مصر منقسمة إلى طبقتين، غنية وفقيرة، كما كان الحال في السابق، هناك العديد من الطبقات المتفاوتة داخلهما، ولدى كل منها طلبات واحتياجات وطموحات، ويحاول المنتمون لكل فئة التكيف مع الأوضاع وفقا لأحوالهم المادية.
عندما يذهب شخص إلى المطاعم والمقاهي المنتشرة في الأحياء الراقية في القاهرة والمدن الجديدة يجدها مكتظة، وعندما يذهب إلى نظيرتها في الأحياء الفقيرة يجدها كذلك، وهي مفارقة تبين أن كل مواطن يقوم بالتأقلم مع الوضع الاقتصادي وفقا لمصادر دخله التي ترسم حدود حركته إلى أعلى أو إلى أسفل، وبالزيادة أو النقصان.
عندما يقول شخص مصري لصديق من جنسية أخرى لا أحد يموت من الجوع في بلده فهذه ليست منحة إلهية أو ذكاء من الحكومة حول إمكانية تلبية احتياجات الناس، بل لأن كل فرد في الأسرة يقوم بإعادة تخطيط وضعه الاقتصادي وفقا للمستجدات.
قد يكون ذكر حالة أسرة (س) المصرية دليلا على نوع التكيف مع الأزمة وعدم التذمر، وإن كان موجودا ففي صمت، حيث اختار الأبناء الثلاثة (ولدان وفتاة) في المرحلة الجامعية المختلفة الخروج للعمل بمقابل مادي متفاوت لمساعدة الأب والأم وسد احتياجات الأسرة الضرورية.
◘ وسط هذا الخضم يظل الفقير في مصر واثقا من أنه سوف ينجو، لكنه على يقين من أنه يمكن أن يموت لأسباب أخرى لا علاقة بينها وبين الشراب والطعام، حيث يستطيع أن يوفرهما بطرق شتى،
هذه الواقعة، هي المرادف العصري لأسرة (ص) الفقيرة جدا، والتي لم يحصل عائلها على تعليم مناسب، واختار مبكرا أن يعمل أطفاله في مهام متباينة لزيادة دخله بدلا من إلحاقهم بالمدرسة وتحمل مصاريف مادية جديدة.
لكل أسرة طريقة، ولكل عضو فيها منهج، وهناك من يحاولون إيجاد الوسيلة التي تسعفهم على سد الجوع، وقد يلجأ البعض إلى السرقة وتبريرها، فالمهم أنه لا أحد يتوقف عن السعي بصرف النظر عن مدى مشروعيته ليصل الجميع في النهاية إلى “الماستر سين” أو العبارة الشهيرة “لا أحد يموت من الجوع في مصر”.
قد يرى البعض في هذا المقال نوعا من الخيال أو الثقة في أن الأزمة الاقتصادية مهما ارتفعت حدتها في مصر لن يضج منها أحد، وهو استنتاج خاطئ لأن بلوغ الأزمة مستوى فوق طاقة النماذج المشار إليها آنفا ليس بعيدا، في حالة عجزت الحكومة عن توفير الجانب المهم من الاحتياجات الرئيسية، فالمهم أن تكون السلع موجودة، وهو ما يتم العمل عليه من قبلها دون اهتمام بمن الذي سيقوم بالشراء.
توفر الحكومة غالبية السلع، الأساسي منها والفرعي، وعندما وجدت نقصا في الأرز الفترة الماضية لجأت إلى الردع لأنها كانت على يقين أنه موجود لدى التجار والمزارعين، والنقص جاء نتيجة احتجاج على الأسعار التي يتم بيعه بها، وهكذا فعلت مع القمح والسيارات وقطع الغيار اللازمة لها وغيرها.
تأتي خطورة الأزمة الاقتصادية من احتمال خروجها عن السيطرة، ومن كانوا يؤمنون بعبارة “لا أحد يموت من الجوع” سوف يموتون فعلا بسببه بطريقة مغايرة، ففكرة المجاعة تكاد تكون غير مطروحة في بلد يميل للتكافل والتعاطف، لكنها قد تظهر في صورة استسهال الانتحار لدى البعض عندما لا يجدون في أنفسهم القدرة على سد رمق أبنائهم أو التحايل على الجوع بأي من السرديات المتعارف عليها في مصر.
من هنا تتحول الأزمة إلى كارثة، فعند حد معين قد يصعب تحمل التبعات القاسية للأزمة الاقتصادية، وأشد ما تخشاه الحكومة حاليا أن تفقد ثيمة “لا أحد يموت من الجوع” معناها وبريقها من خلال زيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، والتي ظهرت ملامحها في اتساع نطاق العزلة التي تفرضها شريحة على نفسها بالسكن في منتجعات خاصة بأفرادها تتوافر فيها كل أنواع الرفاهية التي تحتاجها.