كينيا تنضم إلى معسكر الداعمين لمغربية الصحراء: تحوّل دبلوماسي يعيد تشكيل المواقف الأفريقية

فقدان جبهة بوليساريو الانفصالية لأهم داعميها الإقليميين يزيد من عزلتها.
الأربعاء 2025/05/28
اختراقات كبرى للدبلوماسية المغربية

يشكل الموقف الجديد لكينيا من قضية الصحراء المغربية نقلة إستراتيجية تعبّر عن نجاح الدبلوماسية المغربية في إعادة صياغة مواقف تقليدية داخل القارة الأفريقية. فانتقال نيروبي من دعم بوليساريو إلى تأييد مبادرة الحكم الذاتي المغربية يعكس تراجع الاصطفافات الأيديولوجية لصالح منطق المصالح والتنمية، ويعزز مكانة المغرب كفاعل محوري في بناء شراكات أفريقية تقوم على التعاون الاقتصادي والاستقرار الإقليمي.

الرباط - تعكس المواقف الجديدة الصادرة عن كينيا بشأن قضية الصحراء المغربية تحوّلًا إستراتيجيًا في علاقاتها مع المغرب، وتنقلها من مربع الدعم التاريخي لجبهة البوليساريو الانفصالية إلى موقع المساندة الصريحة للمقترح المغربي للحكم الذاتي، بوصفه الحل الواقعي والوحيد لتسوية النزاع الإقليمي.

ولم يأت هذا التغير بمعزل عن تطورات الدبلوماسية المغربية المتسارعة في القارة الأفريقية، بل يمثل ثمرة مسار طويل من العمل الدبلوماسي الهادئ والمستمر، الذي اختار البناء التدريجي للتحالفات من بوابة الاقتصاد والشراكة التنموية.

وجاء هذا التحول السياسي الكيني بالتزامن مع افتتاح مقر السفارة الكينية في العاصمة المغربية الرباط، وما واكبه من زيارة رسمية لوزير الخارجية الكيني موساليا مودافادي إلى المغرب، استمرت ثلاثة أيام، وأسفرت عن اتفاقيات متعددة. وفي بيان مشترك عقب مباحثاته مع نظيره المغربي ناصر بوريطة، اعتبرت كينيا مبادرة الحكم الذاتي المغربية إطارًا عمليا قابلا للتطبيق، مشيدة بالديناميكية التي يقودها العاهل المغربي الملك محمد السادس على الصعيد القاري والدولي لدعم هذا المقترح.

ولا يمكن فصل التحوّل في موقف كينيا، التي ظلت لسنوات طويلة أحد الحلفاء الإقليميين التقليديين لجبهة البوليساريو، عن تطورات السياسة الأفريقية بعد عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي سنة 2017، ولا عن التحولات الجارية في أولويات السياسة الخارجية الكينية نفسها، والتي باتت أكثر انفتاحًا على منطق المصالح الاقتصادية والبراغماتية بدل الاصطفافات الأيديولوجية.

خالد شيات: موقف كينيا الجديد يضفي وزنا معنويا وسياسيا كبيرا
خالد شيات: موقف كينيا الجديد يضفي وزنا معنويا وسياسيا كبيرا

وباتت كينيا، التي كانت من الدول القليلة التي استضافت تمثيليات غير رسمية لجبهة البوليساريو الانفصالية، تسعى لبناء علاقات إستراتيجية مع الرباط، أحد أبرز الفاعلين في مبادرات التعاون جنوب–جنوب بالقارة، خاصة في مجالات الطاقة، الأمن الغذائي، وتمويل المشاريع الكبرى. ويرى عدد من المحللين أن هذا التحول لم يكن مفاجئا، بل جاء كنتيجة طبيعية لتزايد حضور المغرب الاقتصادي والسياسي في القارة، خصوصًا في شرق أفريقيا.

وأوضح أستاذ العلاقات الدولية خالد شيات في تصريح لـ”العرب” أن كينيا كانت لسنوات طويلة تشكل رمزا من رموز الدعم الدبلوماسي لجبهة البوليساريو، مما يضفي على موقفها الجديد وزنا معنويا وسياسيا كبيرا. وأكد شيات أن “هذا التوجه يعكس واقعية جديدة في السياسة الأفريقية، باتت تولي الأولوية للتنمية والاستقرار الإقليميين.”

وفي خضم هذه التطورات، لم تُخفِ كينيا رغبتها في إعادة التوازن للعلاقات التجارية مع المغرب، بعدما كشفت الأرقام عن عجز واضح في الميزان التجاري لصالح الرباط. وبلغت واردات كينيا من المغرب سنة 2023 ما يقارب 93 مليون دولار، متمثلة في الأسمدة والمواد الكيميائية، في حين لم تتجاوز صادراتها نحو المملكة 3.8 ملايين دولار، أغلبها من الشاي والقهوة.

وفي هذا الصدد، أعلن وزير الخارجية الكيني عن إعداد خطة إستراتيجية لرفع حجم صادرات بلاده إلى السوق المغربية، والسعي لتوسيع التعاون في مجالات متعددة، منها الصناعة، الفلاحة، والخدمات المالية.

ويتزامن هذا الزخم في العلاقات مع تحولات عميقة تعرفها الدبلوماسية المغربية في القارة، حيث نجحت الرباط في السنوات الأخيرة في إعادة تموضعها داخل الاتحاد الأفريقي، واستقطاب دول وازنة إلى صفها، من بينها رواندا، نيجيريا، وأنغولا، بينما اختارت دول أخرى مثل غانا تعليق اعترافها بجبهة البوليساريو. ويتوقع، بحسب مراقبين، أن يفتح الموقف الكيني المجال أمام انسحاب تمثيلية البوليساريو من أراضيها، في ما سيكون خطوة عملية في انسجام مع الموقف الجديد.

ولم تكن الزيارة الكينية للمغرب مناسبة فقط للإعلان عن هذا التحول السياسي، بل عرفت أيضا مباحثات اقتصادية رفيعة المستوى، حيث التقى وزير الخارجية الكيني نظيره المغربي ناصر بوريطة، ووزير الصناعة والتجارة رياض مزور، الذي أكد في تصريح صحفي أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين تتجه نحو مرحلة أكثر توازناً، مشيرًا إلى وجود فرص استثمارية هامة في كينيا، خاصة في قطاعات البناء والزراعة والخدمات. كما كشف عن استعداد المغرب لزيادة استيراد المنتجات الكينية مثل الشاي والقهوة، بما يضمن تبادلا متكافئا يخدم الطرفين.

وفي كلمته بمناسبة “يوم أفريقيا” الذي احتضنته الرباط، دعا وزير الخارجية المغربي إلى تعزيز الاندماج القاري، مؤكدا أن المغرب ينظر إلى التكامل بين دول أفريقيا كخيار إستراتيجي لا بديل عنه لتحقيق التنمية المشتركة.

ويجد هذا التوجه صداه في المبادرات الكبرى التي أطلقها المغرب، مثل مشروع أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، والمبادرة الأطلسية التي تهدف إلى تأمين الطاقة وربط الدول الساحلية بالبنية التحتية البحرية. وتعكس هذه الديناميكية حجم التحول في موقع المغرب داخل المعادلات الأفريقية، حيث لم يعد ينظر إليه فقط كدولة شمال أفريقية، بل كفاعل مركزي في التوازنات جنوب الصحراء، مستفيدا من قوة اقتصاده، وديناميكية مؤسساته الاستثمارية، وشبكة علاقاته المتنامية في أفريقيا الغربية والشرقية على حد سواء.

وفي ضوء هذه المستجدات، يرى مراقبون أن المغرب نجح في ترسيخ منطق جديد في التعاطي مع قضية الصحراء، يقوم على مبدأ “الحل الواقعي والبراغماتي” المرتبط بالمبادرة المغربية للحكم الذاتي، وهو منطق يحظى بتأييد متزايد من العواصم الأفريقية، خصوصا تلك التي باتت تدرك أن استمرار الوضع القائم لا يخدم الاستقرار الإقليمي ولا التنمية المستدامة في القارة.

ويمثل تطور الموقف الكيني من قضية الصحراء تتويجا لمسار طويل من الاشتغال المغربي على خط أفريقيا، حيث بات التقدم الميداني والدبلوماسي المغربي يترجم إلى مواقف ملموسة من دول كانت سابقًا في المعسكر الداعم للطرح الانفصالي.

وفي ظل التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية التي تعرفها القارة، يبدو أن مواقف مثل هذه لن تكون معزولة، بل مرشحة للتكرار في بلدان أفريقية أخرى، ضمن ما يشبه إعادة تشكل بوصلة القارة في واحد من أقدم النزاعات التي عرفتها مرحلة ما بعد الاستعمار.

6