كيف يقتل الأصوليون الفكر الإسلامي في تركيا

يأخذ التفسير الأصولي للإسلام منحى تصاعديا على نحو واسع في تركيا، لكن أيضا، هناك رؤية إصلاحية آخذة في الازدهار وتكتسب زخما.
وليس من المستغرب أن الإسلام الأصولي يوظف كل استراتيجية ممكنة لتشويه سمعة الإصلاحيين، وفي المقام الأول من خلال وصفهم بأنهم مستشرقون. ويُتَّهم أي مسلم إصلاحي يتحدث عن المشكلات الموجودة في المجتمعات المسلمة بأنه يتبنى آراء المستشرقين.
كان إدوارد سعيد عالما عربيا مسيحيا من النافذين، لكن المفارقة هي أن الاستشراق، وهو عنصر رئيسي في ميراثه الفكري، أصبح مفهوما أساسيا للإسلام المعاصر، بل وحتى للفكر الإسلامي. ومن النادر أن تكون هناك حركة إسلامية لا تستخدم مفهوم سعيد للاستشراق في خطابها.
وتركيا ليست بمعزل عن هذا؛ فأي مؤلف أو عالم إصلاحي يخرج علينا بنوع من النقد الذاتي للمجتمعات المسلمة، يُنتَقد فورا ويُتَّهم بأن له آراء المستشرقين. من ثم، فإن الخطاب الإسلامي الأصولي يستخدم مصطلح الاستشراق بدهاء لتشويه صورة النقد الذاتي الذي يتبناه المسلمون الإصلاحيون.
التكتيك الثاني هو أطروحة الارتباط الثقافي؛ فعندما يوجه الإصلاحيون انتقاداتهم في مختلف القضايا- مثل وضع المرأة أو تعدد الزوجات- يدافع الإسلام الأصولي عن موقفه التقليدي في مثل تلك القضايا من خلال الإشارة إلى الارتباط الثقافي. ومن شأن هذا أن يساعد الإسلام الأصولي على الدفاع عن تأويلاته لمثل تلك القضايا من خلال تقديم نوع من الحصانة لتلك التأويلات.
وكتكتيك ثالث، يدفع الإسلام الأصولي بأن النماذج الحديثة تعجز عن فهم الإسلام والتاريخ الإسلامي؛ ووفقا لهذا، فإن النصوص الإسلامية الأساسية وبعض الأحداث التاريخية الرئيسية جاءت قبل الحداثة، ومن ثم فإن الفهم الحديث لمثل تلك الظواهر سيضللنا. في واقع الأمر فإن غالبية الأفكار والمجادلات التي تدور حول أن أطروحات الإصلاحيين لا تعدو كونها سوء فهم للإسلام والتاريخ الإسلامي بسبب عدم أهلية الأساليب الحديثة لذلك.
ومن خلال الاحتجاج بهذا، يدفع الإسلام الأصولي بأن حقيقة الإسلام هي شيء لا يمكن للنهج الحديث أن يستنبطها. ومن ثم فإن طرح سؤال حول الأسباب التي أدت إلى قتل الآلاف من المسلمين لبعضهم البعض في الحروب الأهلية هو مثال للانخداع الذي تسقط فيه الحداثة، حيث أن استجلاء حقيقة مثل تلك الأحداث يحتاج إلى مستوى مختلف من الفحص والتمحيص.
والغرض من هذا الأسلوب بسيط؛ فالإسلام، شأنه شأن جميع التقاليد العريقة الأخرى، مرت عليه بعض الفترات أو الأحداث الغريبة في الماضي يريد المسلمون المعاصرون دائما إخفاءها. وبدلا من التطرق إلى تلك الأحداث والفترات وطرح روايات بديلة بشأنها، يفضل الإسلام الأصولي الدفاع عن مثل تلك الحالات عبر تقديم حصانة مطلقة.
التكتيك الرابع هو تحصين الإسلام الأصولي خلف علماء بارزين في التاريخ، مثل الغزالي والبخاري، يحظون باحترام ومكانة كبيرة لدى المسلمين نظرا لدورهم في وضع الخطوط الرئيسية للخطاب الإسلامي.
ودون شك فإن مثل هؤلاء العلماء العظماء لا يمكن تجاهلهم، لكن الإسلام، شأنه شأن أي تقاليد علمانية أو دينية أخرى، يحتاج إلى نوع من الحوار الفكري. غير أن الأصولية الإسلامية تطرح مثل هذه الأسماء العظيمة في مجادلاتها مع الإصلاحيين كوسيلة لتفنيد أي حديث يُقال.
ومشكلة هذه الاستراتيجية بسيطة، بغض النظر عن مدى عظمة ما تقدمه من إسهامات؛ فالعلماء من أمثال الغزالي كانت لهم أفكار لم تعد مناسبة ليومنا هذا، لكن وجهة النظر الإصلاحية للإسلام تحتاج إلى نوع من إعادة القراءة الناقدة لأعمال علماء من أمثال الغزالي، الذي لعب دورا رئيسيا في تشكيل الإسلام الأصولي. ومن غير الممكن طرح رواية إسلامية ناقدة من دون أن يكون فيها تعرض للأسماء اللامعة في تاريخ الدين الإسلامي.
أما الاستراتيجية الخامسة، فهي طرح الورع والتقوى على أنهما شرط مسبق لأي جهد فكري يتطرق للإسلام. وبناء على هذا، فإن الأصولية الإسلامية تدعو المسلمين إلى تجاهل الإصلاحيين لكونهم غير متدينين بما فيه الكفاية. على سبيل المثال، فإن الإصلاحيين يواجهون انتقادات لأنهم لا يصلّون الصلوات الخمس، أو لأن حياتهم الدينية غير ملائمة.
والمغالطة في هذا التكتيك واضحة أيضا؛ فلا يمكن لأحد أن يدفع بأن الشيوعيين بحق هم فقط من يمكنهم انتقاد الشيوعية، أو أن الليبراليين بحق هم من يمكنهم انتقاد الليبرالية. فهذا الربط بين المهنية والصفات الشخصية هو شكل من أشكال الفكر الذي ساد في القرون الوسطى. كما أن الأصولية الإسلامية ستنظر إلى الكثير من الناس الذين خرجوا بأفكار لامعة على أنهم غير صالحين ولا ورعين، بل وحتى غير متدينين. وبالمثل، فإن هناك أشخاصا ورعين لديهم سجل شخصي صادم من النشاط الإجرامي.
وفي المقابل، فإن النهج الحديث لا يعطي أولوية للسمات الشخصية على التركيز على صحة الحجج والبراهين. فنحن لا يهمنا إن كان من يطرح وجهة النظر متدينا أم لا، بل ما يهمنا هو ما إذا كانت الأطروحة سليمة ومفيدة.