كيف يصبح الدين أداة للجريمة
كان صديقي القريب من روحي قد طلب مني أن أنشر مقالا بعنوان “كيف يكون الدين جريمة؟” غير أني نسيتُ أو تناسيتُ الطلب، وقلت في نفسي، ربّما يبدو العنوان مثيراً أكثر من اللزوم، وقد يُساء فهمه، وقد يظنّ البعض بأنّه يحمل اتهاماً صريحاً للإسلام الذي أصبح في يد الكثيرين أداة تنفيذ الجريمة وتهديد السلم العالمي. مضت شهور تلو الشّهور، ونسيتُ الأمر أو كدتُ أنساه.
ثم انقضى عام ونصف العام، ليفاجئني صديقي بإصراره على تجديد الطلب قائلا لي: أنا ما زلتُ أنتظر مقالا بهذا العنوان: كيف يكون الدين جريمة؟ قلت له: الله يحبّ العبد الملحاح. سأفعل. لكن، دعني أزيح بعض الألغام عن هكذا سؤال، ولأني أفهم قصدك، فاسمح لي بإعادة صياغة السؤال بنحو أصرح وأوضح وأفصح.
سائلي الذي سألني ليس شخصا عاديا، فهو من أبرز النّاجين من جحيم التطرّف الديني. أفلت بشق الأنفس، لكنه أفلت بالتمام والكمال. نجا بجلـده وروحـه وذكـائه وكرامته الإنسانيـة بعد أن نشأ داخل بعض معسكرات تفريخ التطرّف في إحدى دول الخليج، ثمّ شـدّ الرحال إلى معاقل الجهاد الأفغـاني لنصرة الإسلام والمسلمين، وعاد إلى موطنـه، ثـم غادره ثانيـة، وأوشـك أن ينفـذ عملية انتحارية تنهي حياتـه وحياة أبرياء كثيرين. لكنه، في لحظة فارقـة، استفاق من غيبوبته كما لو أنّ يداً إلهية صفعته بقوة. وفي كل الأحوال، لم يستفق على يد أولئك الشيوخ الذين يشبهون عصابة تنشر الفيروس لكي تبيـع اللقـاح، بل داوى ذاته بالتي لم تكن هي الدّاء.
تعود بي الذاكرة إلى تلك الليلة الجميلة التي جالسته فيها، كنا في الفندق، وكان ينشد أمامي بعض الأناشيد الجهادية التي بقيت عالقة في ذاكرته، وكان قصده أن يريني حجم التأثير الوجداني على الفتيان داخل معسكرات تفريخ الإرهاب.
صوت جياش بنبرة جنائزية، لحـن شجيّ بإيقاع مأتمي، كلمات تفجع الوعي وتصيبه بما يشبه سكرات الموت. هل يمكن للفتيان أن يصمدوا أمام تراتيل لها مفعول الأفيون القوي؟ وماذا كان يفعل حسن الصباح رفقة فرقة الحشاشين في قلعة الموت غير هذا التخدير الذي يثير غرائز الثأر والغيرة والانتقام، ويحوّل الإنسان المؤمن إلى مجرّد أداة لتنفيذ الجريمة في انتظار ساعة الصفر؟ ولكي لا ننسى فإنّ الجذور الاصطلاحية لكلمة assassins (القتلة، المجرمون) تعود إلى كلمة الحشّاشين.
حياة هذا الصديق القريب إلى قلبي ملحمة مثيرة بكل المقاييس؛ نجا من مخالب الموت مرّات ومرّات، نجا من القذائف والألغام والتفجيرات، نجا من الدرك الأسفل لجحيم التطرّف، رحلة استغرقت سنين طويلة ومخاطر جمة وسفريات قطع فيها مئات الآلاف من الكيلومترات، وقرر في لحظة فارقة أن يعود إلى الحياة، هذه الحياة التي لا يحصل عليها المرء- إن حصل عليها- إلاّ مرة واحدة إلى الأبد.
سؤاله سؤال استنكاري، أو هكذا أفهمه، إذ أنّ وظيفة الدين في الأصل هي تحقيق الأمن الروحي وليس العكس.
فكيف يندفع المتديّن إلى القتل والتفجير والتّدمير وهو يؤمن بوجود إله طيب يعتني بمصائر الناس، ويؤمن بوجود عدالة أخروية يأخذ فيها الإنسان حقه كاملا؟ بالحس السليم يفترض أن يكون هكذا إيمان مدعاة للشعور بالأمن والطمأنينة والهدوء والسكينة والتسامح والرّحمة.
وبالفعل، فإن هذا الافتراض هو الرهان الاستراتيجي الذي راهن عليه بعض قادة العالم في سعيهم إلى استثمار الأديان، كل الأديان، لأجل بناء عالم متسامح.
إنه رهان لا يخلو رغم كل شيء من بعض المعقولية. غير أن النتائج في الواقع العيني جاءت عكسية، لا سيما بالنسبة إلى الإسلام، هذا الدين الذي لم يهتد بعد إلى سبيل الإصلاح والتجديد.
وهنا مكمن العطب. نعم، يُنتظر من كافة الأديان، وضمنها الإسلام، تحقيق الأمن الروحي، لكن الملاحظ أن حجم التوتر والغضب في نفوس الإسلاميين الناشطين والحركيين يظل كبيرا. وهذا عائق أمام الممارسة السياسية السلمية والسليمة.
كنت قد رويتُ لسائلي قصة أنور الشيخ، ذلك الشيخ الباكستاني الذي عاش حرب انفصال باكستان عن الهند، وكان وقتها لا يزال شابا في مقتبل العمر. لم يكن ينظر إلى الأمر إلا من زاوية واحدة: المسلمون مستهدفون والإسلام في خطر. وفي أحد الأيام انبرى للثأر والانتقام نصرة للمسلمين والإسلام، فاقترف جريمة قتل في حق ثلاثة من السيخ الأبرياء.
مرّت السنوات، وأصبح أنور الشيخ من شيوخ الإسلام في إقليم البنجاب، غير أنّ الشّعور بالذّنب عاد ليطارده ويقضّ مضجعه. وفي نهاية المطاف تحول أنور الشيـخ إلى داعية للسـلام والإصلاح الدينـي.
وكان أن قال في آخر حياته للمؤرخ البريطاني طارق علي: “مهما يكن من أمر، سوف أموت وأنا واثق من معتقداتي الإنسية والعقلانية.
وإذا نجحت كتاباتي في ثنْي ولو بعض العشرات من الناس عن الكراهية والتعصب الدينيين، فإني سأكون قد افتديت نفسي جزئيا، ولو أن لا شيء، أقول لا شيء، سيعيد ضحاياي الثلاث إلى الحياة. أنا لستُ قلقا على نفسي، بل على الآخرين. انظر ماذا فعلنا ببعضنا البعض بأياد مجرّدة. فلو وقعت بأيديهم الأسلحة النووية، قد يدمّرون كل شيء باسم الدين. أؤكد لك بأنهم قد يفعلون، قد يفعلون…”
لقد أعدتُ صياغة السؤال. والسؤال كما يقال هو نصف الإجابة. لذلك نخلص إلى القول، عندما يسعى الخطاب الديني إلى إثارة الغرائز البدائية في الإنسان، الحذر، الغيرة، الفحولة، الحمية، الغزو، الثأر، الانتقام، يصبح الدين أداة للعربدة والتغول… والجريمة.
كاتب مغربي