كيف يستفيد تنظيم القاعدة في مالي من التناقضات

مثّل دخول أوكرانيا على وقع الأزمة الأمنية في مالي جرعة دعم للجماعات الجهادية التي دخلت في تحالفات غير معلنة مع المجتمعات المحلية الانفصالية. وتوفر هذه التحالفات الناشئة بيئة اجتماعية أوسع يمكن استثمارها على المدى الطويل.
القاهرة - أثبت فرع تنظيم القاعدة في منطقة الساحل أنه أكثر براغماتية وديناميكية في تحالفاته، مقارنة بفرع تنظيم داعش، حيث شكل ثنائيًا يرفع راية النضال ضد مستعمرين جدد مع الانفصاليين الأزواد، وتقديم نفسه كمدافع عن الشعب المالي في مواجهة من يرتكبون جرائم بحقه وينهبون ثرواته.
وتعاملت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (فرع القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي) مع منافسة روسيا وأوكرانيا ودخولهما على خط الصراع في مالي علنًا بطريقة ذكية، مكنتها من تحقيق بعض المكاسب، حيث شكلت شراكة ميدانية على الأرض مع الانفصاليين الأزواد الذين يتمتعون بدعم شعبي عريض، ويكتسبون شرعيتهم من امتداداتهم العرقية ودفاعهم عن حقوق مشروعة لهم في الثروة والتمثيل السياسي.
واستفاد جهاديو الساحل الأفريقي، خاصة المنتمين لفرع القاعدة بشكل غير مباشر من الإمدادات والدعم التسليحي والتدريبي المتطور الذي يتلقاه الانفصاليون الأزواد، وهو ما وضح مؤخرًا من سير الأحداث والمعارك، حيث نُسب إلى جهاديي القاعدة بعض الفضل في الانتصار الذي تحقق في مواجهة الجيش المالي وقوات مرتزقة فاغنر في بلدة تينزاواتين القريبة من الحدود مع الجزائر في شمال البلاد حيث خلّفت المعارك العشرات من القتلى والمصابين من الجنود الماليين والمرتزقة الروسيين.
وتمكن جهاديو القاعدة من وراء تحالفهم غير المعلن مع الانفصاليين الأزواد من تحقيق العديد من المكاسب بعد الانتصار الأخير الذي تبعته اتهامات من موسكو لكييف بدعم وتمويل الإرهاب، حيث ازدادت جاذبية دعايتهم في الأوساط الشعبية من منطلق طرح أنفسهم كمناضلين ضد سلطة عسكرية باطشة وقوى خارجية طامعة في الذهب، ترتكب في سبيل فرض هيمنتها ووضع يدها على ثروات البلاد أبشع الجرائم.
وطرح فرع القاعدة في الساحل عبر اشتراكه في المعارك في صف الانفصاليين الأزواد ونصبه بعض الكمائن اسمه كرقم مهم في الصراع الذي اكتسب بعدًا إقليميًا ودوليًا، حيث تدخلت أوكرانيا مؤخرًا كعامل إسناد حيوي من خلال تقديم التدريبات والأسلحة المتطورة بهدف تغيير مجرى المعارك على الأرض في غير مصلحة روسيا وحلفائها.
وحقق فرع القاعدة في مالي مكسبًا مزدوجًا من شأنه تعميق رسوخه داخل المجتمع المالي الذي يتشكل من مجموعة من الأعراق والإثنيات، حيث أسهم في وقف عمليات الطرد والتهجير القسري التي تباشرها قوات مرتزقة فاغنر والجيش المالي في حق عرقيات الطوارق والعراق والسونغاي، وهي عرقيات رئيسية ذات إرث تاريخي، من مدن كثيرة غنية بالذهب على مدى أشهر بهدف إخلائها والاستيلاء عليها.
واشتراك فرع القاعدة في المعارك الأخيرة على حدود الجزائر التي أوقفت عملية التهجير، ومن ثم إعادة تشكيل ديمغرافية السكان الأزواد ووضع حد لعمليات الاختطاف والتعذيب ناهيك عن القتل ضد الطوارق والفولانيين والعرب من شأنه تعزيز حضور جماعة أنصار الإسلام والمسلمين وخلق محاضن اجتماعية مضافة إليها، بخلاف فرع داعش الذي يفتقر للعلاقات الجيدة مع العرقيات والإثنيات المختلفة.
وإذا كان فرع داعش في الساحل قد حقق مكاسبه وتوسعه على الأرض من خلال جمعه قوات الجيش والسكان وفاغنر في سلة واحدة مرتكبًا العديد من الانتهاكات في حق المدنيين، فقد نجح فرع القاعدة خاصة خلال المعارك الأخيرة في الترويج لنفسه ككيان مدافع عن السكان والمدنيين بالتنسيق مع الأزواد في مواجهة وحشية قوات فاغنر وهمجيتها.
ونُفذت قبل المعركة الأخيرة في بلدة تينزاواتين على الحدود مع الجزائر شمالي البلاد نهاية يوليو الماضي إعدامات فردية وجماعية، علاوة على الممارسات الصادمة مثل عرض الرؤوس المقطوعة على الأجساد وتفخيخ الجثث لتنفجر في من يلمسها بهدف بث الرعب وإيقاع أكبر قدر من الضحايا كوسيلة إضافية، إلى جانب الهجمات ضد القرى والتجمعات البشرية حول نقاط المياه والمراكز الصحية واستهداف المسافرين على الطرقات والعمال والرعاة وغيرهم لجعل تهجير السكان وإخلاء مدن الأزواد أمرًا واقعًا.
وبات فرع القاعدة في مالي عبر ديناميكية تحالفاته وحركيته رقمًا مهمًا في المعادلة الجماهيرية ضمن أوزان القوى الداخلية، كما صار رقمًا صعبًا على المستوى الإقليمي بعدما أسهم في صنع الفارق وساعد الانفصاليين الأزواد في حماية أهم وآخر قلاع الذهب من السقوط، ما يعني حرمان الروس وشركاءهم من العسكريين الماليين من تكريس انتصاراتهم بنصر نهائي حاسم.
وأثبت تعاون جهاديي القاعدة في مالي مع السلطات الأوكرانية ولو بشكل غير مباشر تحلّيهم بالبراغماتية، حيث اختاروا حليفًا له مصلحة كبيرة في هزيمة الروس في أفريقيا ويهمه ألا تتمكن موسكو من وراثة النفوذ الأميركي والغربي بدول الساحل، ما انعكس على صورة منتسبي القاعدة بصحبة الانفصاليين الأزواد كطرف مناوئ لمستعمر جديد دخل البلاد عبر استغلال أنظمة غير شرعية تخشى السقوط لتعويض خسائره في الحرب وملء خزائنه بالذهب والثروات الأفريقية.
وكما حقق جهاديو القاعدة في مالي منجزًا جماهيريًا من خلال الاصطفاف مع الأزواد خلال المعارك الأخيرة، استطاعوا الإسهام في خلق انقسام داخل الجيش المالي والأجهزة الأمنية، ما يهدد لاحقًا بإمكانية انشقاق البعض من العسكريين والتحاقهم بالجماعة المتمردة التي باتت الآن هي من ترفع راية النضال دفاعًا عن الثروات والأرض والممتلكات والحقوق المشروعة في مواجهة الاستعمار الروسي الجديد وعملائه بالداخل.
ويشعر عدد كبير من الضباط والجنود بالظلم والتمييز بعد انكشاف خطط الروس الاستعمارية مع ارتباط نشاط مرتزقة فاغنر الأمني باستثمارات كبيرة في مجال الذهب والموارد، ما يعني إهمال الهدف الرئيسي وهو تحقيق الأمن ومكافحة الإرهاب، والتركيز على الاستيلاء على ثروات البلاد وحرمان أبنائها منها بمن فيهم المنتسبون للجيش والأجهزة الأمنية.
وبعد أن عقد فرع القاعدة في مالي والساحل هدنة قبل أشهر قليلة مع غريمه فرع داعش بالساحل والصحراء وأوقف المعارك والصراعات معه، ها هو يتحرك الآن عبر اصطفافات داخلية ميدانية وشراكات دولية غير مباشرة لتحقيق مكاسب تمكنه على المدى المنظور من التفوق على منافسه الجهادي الرئيسي بالمنطقة.
◙ فرع القاعدة في مالي حقق مكسبًا مزدوجًا من شأنه تعميق رسوخه داخل المجتمع المالي الذي يتشكل من مجموعة من الأعراق والإثنيات
ومن خلال الانخراط في المعارك والتحالفات التي ينخرط فيها الانفصاليون الأزواد يتحقق لفرع القاعدة بمالي ودول الساحل التفوق القتالي والتسليحي وتلقي التدريب النوعي، الذي يمكنه على المدى البعيد من العودة أكثر قوة ليحرم غريمه الجهادي من مكتسباته على الأرض.
وليس مستبعدًا أن يتحقق ذلك بالتنسيق مع شركاء القاعدة الجدد بطول وعرض ميادين المعارك وهم الانفصاليون الأزواد، بالنظر إلى أن مناطق نفوذ داعش هي نفسها مدن الأزواد التاريخية، وفي مقدمتها مدينة (كيدال) شمالي البلاد. ومن المرجح أن يواصل فرع القاعدة في مالي ودول الساحل توظيف التناقضات الدولية لصالحه بعد دخول روسيا وأوكرانيا على خط الصراع في مالي علنًا، ما يمثل إضافة لتنافس القوى الدولية على الساحل الأفريقي.
ويضاعف من مكاسب الجهاديين من منتسبي فرع تنظيم القاعدة إذا كان الدخول الأوكراني على خط الصراع بمالي ودول الساحل في مواجهة النفوذ الروسي بضوء أخضر أميركي وغربي، ما يضيف زخمًا أكبر وأوسع على مستوى التدريب والتمويل والدعم، ويتيح للجهاديين تعزيز نفوذهم ووجودهم بعدما نجحوا فعليًا في التمترس داخل هذه المنطقة الحيوية وتعميق تحالفاتهم وتقوية امتداداتهم داخلها.
ووضح أثر التعاون الأوكراني الذي وصل إلى حد تسهيل إرسال مقاتلين منتمين لتنظيم القاعدة إلى أوكرانيا وبولندا لتلقي تدريبات متطورة على استخدام طائرات الكاميكازي دون طيار، وفقًا لشبكة إيس إنفو المعلوماتية التي ينسقها تحالف الساحل الذي شكلته المجالس الانقلابية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو على سير المعارك؛ حيث وصف مراقبون هزيمة فاغنر الأخيرة التي أسهم فيها مقاتلو القاعدة بنصب بعض الكمائن بأنها أكبر ضربة ميدانية لمجموعة المرتزقة الروس منذ سنوات.
ولم تصدر الاتهامات بالتعاون مع الجهاديين والانفصاليين الأزواد في مالي فقط عن المسؤولين الروس، وهي التي استدعت رد فعل فوري من المجلس العسكري في باماكو الذي أعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع كييف، بل اعترف بها مسؤول الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أندريه يوسوف وأن كييف قدمت معلومات للطوارق والجماعات الجهادية.