كيف يخفف الأبناء من آلام الأمهات

أشعر اليوم، أن عدلا ما يحل، وأن يدا ما تمر على تلك المرارة البعيدة، لتمسد عليها وتمحوها، ما فعله ابني دون قصد منه صالحني مع "الظلم" الذي كنت أشعر به.
الجمعة 2019/03/01
تخبئ لنا الحياة دائما مفاجآت صغيرة

عدت إلى البيت من يوم عمل شاق لأجد ابني البالغ من العمر 16 عاما قد غسل الأطباق والصحون ورتبها في الخزانة ونظّف المطبخ ولمّعه، والحقيقة إنها لحظة لا توصف بالنسبة لأي أم أو أب، أن يقف أمام مشهد كهذا وأن يعيش لحظة مماثلة. لحظة فارقة يشعر فيها الأبوان أن هدية أو وساما مميزا جدا يمنح لهما من يد صغيرة محبة وممتنة.

وطبعا لم تكن الأطباق والصحون نظيفة تماما، كانت بقايا الأكل والصابون عالقة في حواشيها والماء يقطر منها. ولسبب ما لم يستعن ابني بغسالة الصحون وفضّل أن يغسلها بيديه الصغيرتين، تأكيداً على رسالة معينة ربما مفادها “أحبك”، أو “أشعر بتعبك” أو “لست وحدك” أو أي شيء آخر.

 كانت هذه أول مرة يقدم فيها ابني على حركة كهذه رغم أنه يساعد بشكل منتظم في مهام أخرى كثيرة من بينها إخراج أكياس الزبالة وإعداد بعض الوجبات الصغيرة والذهاب للسوبر ماركت لشراء بعض اللوازم كلما دعت الحاجة، وقد تساءلت بيني وبين نفسي عن الأسباب التي دعته للتفكير في مفاجأتي بهذا الشكل الباذخ، أقول باذخا وأدرك أن أمهات كثيرات يعرفن ما أقصد، إذ لا شيء يقلق الأمهات ويشغل بالهن في طريق العودة إلى البيت بعد يوم متعب، أكثر من المطبخ ومهامه التي تنتظرهن.

قبل هذه الحادثة التاريخية بأيام تعرضت لموقف صعب، من تلك المواقف التي تجعل الأرض تهتز تحتنا للحظات ونشعر كأننا نفقد توازننا ونقع أو نكاد. ويبدو أن ابني شعر بصعوبة الوقت الذي مررت به، رغم كل محاولاتي لإخفاء الأمر عليه، فأراد أن يشعرني أن هناك من يقف معي وخلفي وأنني لست وحدي. كانت تلك رسالة لطيفة وحنونة، من دون كلام كثير.

في صغري تربيت على مساعدة أمي مثل باقي الفتيات في تلك الفترة. لم يكن هذا خيارا بل واجبا يقسم بين البنات ومهام تتوزع عليهن، من طبخ وغسل وكي وتنظيف وتلميع وتشطيب وغيرها. وفي السادسة عشرة من عمري -عمر ابني الآن- كانت أمي تكدس أمامي كل يوم أحد، كومة ملابسي لغسلها، كنت ما أزال صغيرة في الحجم أيضا، فكانت تلك الكومة التي لا تتجاوز عشر قطع مثلا تبدو عالية جدا ومرهقة ومستنزفة إلى أبعد حد، وكانت أمي تشفق علي سرا لكنها لا تبدي تعاطفها، غير أنها تأتي لنجدتي كلما ضمت الكومة ملابس شتوية ثقيلة أو جاكيتات وبناطيل جينز مثلا.

وإنصافا لتلك البعيدة الغائبة، لم تكن أمي قاسية على الإطلاق، لكنها كانت مضطرة لمجاراة المحيط الذي كنا فيه والخضوع لماكينة اجتماعية طاحنة تصر على إعداد البنات ليكن ربات بيوت وأمهات جيدات مهما بلغن من تعليم. وأذكر أن كثيرات من الأقارب والجارات كن يلمنها حين يأتين لزيارتنا ويجدنها منهمكة في التنظيف بمفردها بينما نحن، منكبات على دروسنا، وكانت ترد على لومهن بهدوء وثقة قائلة “بناتي وراءهن دروس”.

رغم كل هذا ظللت أحمل داخلي مرارة يوم الأحد إلى الآن ربما، كانت مهامه قاسية علي، وكنت أسمع صوت الذكور من أبناء العائلة وهم يلعبون كرة القدم في الساحة المجاورة للبيت ويتصايحون ويتندرون ويضحكون وكثيرا ما خطر في بالي أن أترك كومة الملابس وأخرج للعب معهم، لكن ذلك كان مستحيلا.

أشعر اليوم، أن عدلا ما يحل، وأن يدا ما تمر على تلك المرارة البعيدة، لتمسد عليها وتمحوها، ما فعله ابني دون قصد منه صالحني مع “الظلم” الذي كنت أشعر به، لكن من قال إن الأشياء تحدث من دون قصد؟. تخبئ لنا الحياة دائما مفاجآت صغيرة، قد تبدو لوهلة كما لو أنها أمور عادية، لكن لو نظرنا داخلنا جيدا لوجدناها استجابة لنداء ما، لحاجة ما، حق أو عدل ننتظره منذ أمد بعيد يعاد إلينا.

21