كيف نكتب أدب الأزمة
منتصف التّسعينات من القرن الماضي، في خضم الأزمة الأمنية التي عرفتها الجزائر، والصّراع الدّموي ضدّ الجماعات الإرهابية، مع ما رافقه من مجازر بشعة، استهدفت المدنيين، ظهر جيل شاب من الرّوائيين، حاول القبض على اللحظة الحرجة من التّاريخ الحديث للبلد، وتدوين فظاعات المرحلة في نصوص أدبية، يتقاطع فيها الواقع مع المتخيّل.
غالبية هؤلاء الرّوائيين كانوا يعيشون في الجزائر، في تفاعل يومي مع الأحداث، كانوا -رغماً عن أنفهم- جزءًا من «الحرب»، يتحمّلون مشاعر الخوف نفسها التي فُرضت على البلد وعلى أبناء الشّعب، وكلّ واحد منهم كان يتوقّع أن ينتهي يومه برصاصة أو بضربة خنجر، وأكثر من مئة كاتب وصحافي قطعت الجماعات الإرهابية أنفاسهم: الطاهر جاعوط، يوسف سبتي، بختي بن عودة، وغيرهم.
اللحظات التّاريخية العظيمة من شأنها أن تنتج أدباً عظيماً، وقد ظهرت، في سنوات التسعينات تلك، كتابات مهمّة عن فترة الإرهاب والحرب الدّاخلية في الجزائر، لكن سرعان مع جاء روائيون، من جيلي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، مرفقين بنقّاد يحومون في مداراتهم، ليتهجمّوا على كتابات الشّباب في التسعينات، ويقلّلوا من قيمتها، بوصفها: أدباً استعجالياً.
مصطلح «أدب استعجالي»، الذي نحته أكاديمي وروائي «قديم»، من جامعة الجزائر، يختزن كثيراً من الكره والحقد والضّغينة، لقد جاء للتّقليل من أهمية جيل كامل من الرّوائيين، جيل عاش في قلب الأزمة الأمنية الكبرى، تلفّظ به صاحبه، وعمّمه على أعمدته في بعض الجرائد اليومية، بهدف خنق أصوات جديدة، في الرّواية الجزائرية، وراح يوزّع المصطلح نفسه على كلّ كاتب لا تعجبه كتاباته (وفقاً لأهوائه الشّخصية)، والمؤسف في الأمر أن نقاداً محترمين ركبوا الموجة ذاتها، وتبنّوا المصطلح، هكذا اشتعلت حرب هامشية، بين روائيين من جهة ونقّاد من جهة أخرى، وبدل دعم التّجربة الرّوائية في البلد، راح البعض يهدم تجارب ناصعة، بمعول النرجسية المتغوّلة في الذّات الجزائرية.
في سوريا، منذ حوالي خمس سنوات، تطوّرت الأحداث الميدانية، تحوّلت ثورة شعب إلى حرب مفتوحة، يسقط فيها يوميا الأبرياء، وكان من الطّبيعي أن ينخرط الأدب في دوامة الأحداث، وصدرت، في الفترة الماضية، روايات، لكتّاب شباب وأخرى لأسماء مكرّسة، اتّخذت من الواقع الدّموي للبلد ثيمة لها، عدد من الكتّاب اتّخذ موقفاً واضحاً، في نصوصه، بالانحياز لخيار الشّعب، والاصطفاف مع الأبرياء، وآخرون فضّلوا السّير على حبل رقيق، في مهادنة النّظام، والدّفاع عنه بشكل مبطّن.
في الحالة الأولى أو الثّانية، يظلّ الأدب أدباً، ولا يحتاج لتعريفات ثانوية، كالقول إنه أدب استعجالي، للتّقليل من قيمته، كما حصل في الجزائر، فعندما ستستقر الأوضاع في سوريا، سيكون للقارئ القرار، ووحده من سيحكم على جودة النّص أو رداءته، ولن يكون في حاجة ﻟ«نقّاد تحت الطّلب»، يحدّدون ذائقة المتلقي، ولا لجرائد متحزبة -كما هو الحال في الجزائر – تفرز الكتّاب وتصنّفهم بحسب ولائهم لجهة، على حساب جهة أخرى. كلمة «أدب» وحدها تعرّف نصاً، روائياً كان أو شعرياً، ومحاولة الإنقاص من قيمته بإدراج تعريفات هامشية، هي إساءة للقارئ وقلّة احترام لعقله.
الغريب في الأمر أن أنصار «الأدب الاستعجالي» في الجزائر، الذين كانوا يرفعون من «إحباط» كتًاب شباب، في جزائر التّسعينات من القرن العشرين ومازالوا كذلك، كانوا يستهدفون الكتّاب باللغة العربية، من دون الخوض في الكتابات التي تحدّثت في الموضوعات نفسها بالفرنسية، مع تجنّب الطّعن في أسماء فرنكفونية، مثل ياسمينة خضرا (وهو ضابط سابق في الجيش)، الذي صنع مجده برواياته عن سنوات الإرهاب في الجزائر، التي لم تحمل جديداً مقارنة بما كان يكتب العربية، هكذا تتجلّى واحدة من صور «كره الذّات» في الثقافة العربية، في الجزائر، حيث نجد كتّاباً ينصّبون أنفسهم بأنفسهم أعداءً لزملاء لهم، يشاركونهم المحن ذاتها، ويحترقون بالنّار نفسها.
كاتب من الجزائر