"كوندودي" دستور التبو الذي لا يزال ينظم حياتهم

منظومة قانونية وضعية عابرة للحدود الجغرافية.
الثلاثاء 2021/08/03
التبو.. إثنية صامدة رغم التحولات

 يستحضر التبو تاريخهم بكثير من الفخر والاعتزاز، ويرون أن بقاءهم على خصوصياتهم الثقافية والحضارية هو الذي أعطاهم القدرة على الصمود في وجه التحولات الكثيرة التي عرفتها ليبيا والمنطقة، لاسيما في العهد السابق عندما كانت الدولة تتبنى الهوية العربية بشكل مطلق وتتجاهل الهويات الإثنية ومنها الهوية التباوية.

ويعني اسم التبو باللغة المحلية “شعب الصخر”، وجاء أيضا في كتاب الأصل الواحد للغات العالم القديم لعالم المصريات النمساوي لِيو رَينيش، أن التسمية هي تحوير لكلمة “تِحنو”، وهو اسم أطلقه المصريون القدماء على قبائل استوطنت غرب النيل.

والتبو الذين ينتشرون في ربع الصحراء الكبرى هم في الأصل رعاة وبدو رحّل ينتقلون في مساحات تواجدهم الممتدة من المثلث الليبي – المصري – السوداني إلى غربي النيجر، ويناهز عددهم الجملي المليوني نسمة أغلبهم في تشاد، ولا يتجاوز عدد الليبيين منهم 140 ألف نسمة يتوزعون بين الكفرة شرقا وإقليم فزان ويتكلمون لغة محلية تدعى “التوداقا”.

ويعرف التبو أيضا بتسمية “القرعان” التي يقول الكاتب الإنجليزي إتش.جي فيشر إنها وردت في أوائل القرن الثامن الميلادي، ويشير إلى أن “الخوارِزمي وهو يكتب على الأرجح بين عامي 836 و847 م استعمل تسمية كُوران، وهي الَّتي تحوّلت في استعمالنا المعاصر إلى قُوران، وتشير الى تُبو الجنوب أو دازّا”.

كما أورد هذه التسمية الرحّالة الأندلسي الحسن الوَزّان المشهور باسم ليون الأفريقي (1488 – 1554 م) وذلك في كتابه “وصف أفريقيا”، حيث يقول في معرض حديثه عن الطرقات الصحراوية للقوافل “وأسوأ من هذا خط السفر المفتوح حديثاً بين فاس والقاهرة مروراً بصحاري ليبيا، غير أن المسافرين يمرون في طريقهم هذه بالقرب من بحيرة عظيمة تعيش حولها شعوب ساوو وكُوران”.

دوردا شهاي

في العام 1889 اجتمع 42 شيخا من شيوخ قبائل التبو لوضع دستور خاص بشعبهم، وكان ذلك تحت إشراف الزعيم التاريخي السلطان شهاي بوغر المعروف لديهم باسم دوردا شهاي، والذي كان يحمل رقم 14 بين سلاطين التبو، وتولى الحكم في العام 1888 م ودامت مدة سلطنته وزعامته 50 عاما إلى أن توفي سنة 1938 م عن عمر ناهز 90 سنة وقبره لا يزال مزارا في منطقة برداي بإقليم تيبستي شمال تشاد.

وكان شهاي متحدرا من أسرة أردي من فخذ التماغرة بقبيلة التيدا، وهي مكونة من بدو رحّل يسكنون جنوب ليبيا وبالتحديد في القطرون وتجرهي والمرزق وأوباري والكفرة وربيانة، وكذلك شمال تشاد بمنطقة تيبستي وفي النيجر بمنطقة الكوار ولهم لهجتهم الخاصة بهم تسمى التيداجا.

ويعود الفضل إلى شهاي في وضع القوانين العرفية التي لا تزال تحكم التبو إلى اليوم، وقد استند فيها إلى أحكام الشريعة الإسلامية والأعراف السائدة آنذاك، وهي أعراف متوارثة مستقاة من سنّة الحياة الطبيعية التي لا تختلف مع الشريعة، وجاءت ضمن دستور يسمّى “كوتوبا” أو “كوندودي”.

ويقول الباحث مينا تسكدي “إن دستور التبو عبارة موجزة تدلّ على صيغة من صيغ العقد الاجتماعي كما أشار إليه الفلاسفة، ونسميه في ثقافة التبو باسم كُتُما”.

ووفق معجم التبو لصاحبه عبدالله لبن “لا تزال النسخة الأصلية من شريعة الكُوتوبا موجودة حتى هذا الوقت وهي في حراسة أعيان التيدا”، حيث تتم المحافظة عليها لأنها تمثّل ذخرا تراثيا مهمّا في تاريخ التبو الثقافي، وتمت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية في العام 1952.

دستور التبو يمثل أداة لحماية المجتمع من التشتت وتوجيهه نحو توافق اجتماعي على امتداد مناطق انتشار الإثنية

ويبدو واضحا أن مفردة كُتُبا أو كوتوبا متحدرة من اللغة العربية وقد يكون السلطان شهاي هو من أطلقها على دستور التبو كونه كان يتقن اللغة العربية.

وفي دراسة بعنوان “رموز وطنية من التبو” بيّن مراجع السحاتي الباحث الأكاديمي في تاريخ وثقافة التبو أن السلطان شهاي ساهم في إعداد وإصدار نظام وقانون عرفي للتبو وهذا النظام كان ولايزال بمثابة دستور خاص بالتبو وهو دستور وقانون محلي يحتكم إليه أفراد التبو في القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

وذلك الدستور أو النظام الذي قام بتدوينه شهاي يطلق عليه التبو كوتوبا أو كتبا وهو يجمع القوانين العرفية التي يستند إليها التبو عند التحكيم في العديد من القضايا خاصة الاجتماعية.

ويمثل دستور التبو الأول من نوعه الذي تم تدوينه في أواخر القرن التاسع عشر ليكون أداة لحماية المجتمع التباوي من التشتت وتوحيده تحت مظلة القانون وتصويب ما كان مثار جدل في السابق وتوجيهه نحو توافق اجتماعي على امتداد مناطق انتشار الإثنية من غرب النيل إلى شرق النيجر، مرورا بجنوب ليبيا وشمال تشاد وشمال غرب السودان، لاسيما في ظل ما يمتاز به السلطان شهاي من حكمة وكاريزما ووجاهة وقدرة على القيادة لمدة 50 عاما.

وبحسب الباحثين المتخصصين يجمع دستور التبو بين الأطر العامة التي تحدّد المسؤوليات وبين المواد التفصيلية التي تحدّد الإجراءات الواجب اتباعها، أي أنه يجمع بين الناحيتين التنظيرية والإجرائية، فهو ينتقل من تحديد المسؤوليات إلى تنظيم المعاملات الضرورية، وخاصّة ما يقتضي منها إصدار أحكام قضائية محدّدة، كما في حالات فضّ المنازعات والقصاص والعقوبات الماديّة أو المعنوية لمرتكبي الجرم.

نقلة حضارية

Thumbnail

وفق قراءة أنثروبولوجية كان وضع دستور بمواد قانونية أو عرفية واضحة يعتبر نقلة حضارية مهمة جداً في مجتمع رعوي بسيط مثل مجتمع التبو الصحراوي الذي ظهر فيه هذا النص اللافت للنظر مقارنةً بغيره من المجتمعات المحيطة به التي كانت تحتكم إلى أعراف وتقاليد شفوية.

وكان هدف السلطان شهاي باعتباره الأب الروحي للتبو ومؤسس حركة التغيير والإصلاح الاجتماعي واضحا من خلال سن قوانين تستمد شرعيتها من المرجعية الدينية والعادات والأعراف التي تتماشى مع تقاليد قبائل التبو، حيث يحتكم إليه جميع التبو أينما وجدوا، الأمر الذي زاد من الترابط الاجتماعي القوي بين أفراد القبيلة وأغلبية القبائل الأخرى في الصحراء الكبرى تتقاضى وفق هذا القانون العرفي.

ويتم الاعتماد على دستور “الكوندودي” في مختلف مجالات الحياة والقضايا التي قد تعترض الجماعة أو الأفراد كالحروب والقتل والسرقة والزواج والطلاق والميراث غيرها.

وتقول مريم كوكني من مركز الدراسات التباوية إنه “من الحالات النادرة جدا أن يتوجه شخص من قبائل التبو إلى مراكز الشرطة ليقدم بلاغا أو شكوى أو رفع قضية ضد أحد أبناء قومه، مهما كانت القضية أو الخلاف، وسبب ذلك يعود إلى نظامهم القضائي المحكم والمعمول به إلى الآن، في حالات حصول جريمة أو أي خلاف بين أبناء التبو سيتوجه المتضرر فورا إلى لجنة القضاء لرفع قضية ضد الآخر، وعلى الفور يتخذ القضاء خطوات عملية أولها توجيه دعوة حضور إلى الشخص المدعى عليه، ويتم تحديد موعد لانعقاد جلسة بحضور الطرفين”.

وفي خطوة ثانية يطلب القاضي من الطرفين قبول التحكيم بينهما وتسليم القضية له وإقرار ذلك أمامه وبحضور شهود وبعض الأعيان، وبعد الموافقة من الطرفين تأتي الخطوة الثالثة حيث يطلب من المتظلم سرد قصته وحيثيات المشكلة، ويستمع الجميع إلى القضية دون مقاطعة من أي شخص كان، وفي أغلب القضايا يختار الطرفان من ينوب عن كل منهما لطرح القضية، على أن الاختيار على شخص بليغ ويعرف بنود دستور التبو جيدا، وهو بمثابة محام. وبالإضافة إلى ذلك عادة ما تكون الجلسة علنية، وتحسم القضية في جلسة واحدة، وقد تتمدد في حالة انتظار الشهود أو لضرورة الإيفاء بالمستحقات في الزمن المحدد.

وبعد تداول القضية والاستماع إلى كل الأطراف، تأتي مرحلة النطق بالحكم، علما وأن القضايا الصعبة مثل القتل أو الشرف أو النصرة تأخذ وقتا أطول وإجراءات مرهقة إلى حين الوصول إلى لحظة النطق بالحكم.

وأما القضايا المالية كالاختلاس أو المشاجرات أو الخلافات الزوجية فإنها لا تأخذ أكثر من أسبوع وقد تحسم في يوم واحد، واللافت في الأمر أن هؤلاء القضاة لا يملكون قوة شرطية أو أشخاصا أقوياء ينفذون الحكم، لأن ما يلزم الطرفين هو احترام دستورهم ونظامهم القضائي، وبإمكان أي طرف استئناف القضية في حالة عدم رضاه بالحكم، وطريقة الاستئناف تتمثل في استدعاء قاض آخر للنظر في حكم القاضي الأول، وبإمكان القاضي الآخر رفض القضية وتأييد حكم الأول أو قبول الاستئناف.

Thumbnail

وتأخذ القضايا المعقدة كالثأر أو القتل العمد وقتا كافيا من الدائرة القضائية لإصدار الحكم حيث قد يستمر النظر والتداول عدة أعوام وقد لا تنتهي القضية إلا بالقصاص من القاتل وذلك تطبيقا للمثل “لا يغسل الثأر إلا الدم”. وتعتبر قضية القتل عمداً من أصعب القضايا، لاسيما عندما يتم التمثيل بجثة المقتول، أما في حالة التوافق بين القاتل وأهل القتيل فتعتبر هذه من أسهل القضايا حكماً لأن بنودها محدودة وواضحة. وغالباً ما يطلق التبو اسما مستعارا على القاتل مثل “ارمي” و”هلي”.

ولا يعقد الصلح في قضية القتل عند التبو إلا بعد إجراءات تمهيدية يكون الهدف منها التمهيد والاسترضاء، وتقريب وجهات النظر وتصريف الأحقاد وكف الأيدي المطالبة بالثأر.

وأول إجراء يتّخذ هو الاستشهاد بالأمثال القديمة والنصوص الدينية لتليين المواقف عند أهل القتيل وهي إجراءات بطيئة ومرهقة تأخذ أحياناً عدة سنوات حتى يتم الاتفاق على دفع الدية.

وفي حال عدم التمثيل بالجثة، فشروطها أن تدفع الدية المطلوبة كاملة من الإبل والأغنام، مع عدم الدخول في مشاحنات مع أهل القتيل من قبل أهل القاتل أو أحد أقاربه من الدرجات المختلفة، ويشترط على القاتل ألا يتزوج في العلن، أما إذا تزوج القاتل قبل دفع الدية فيترتب على ذلك شروط أخرى منها دفع غرامات إضافية، كما يمنع من حضور المناسبات الاجتماعية ومن الرد على أهل القتيل لأي سبب من الأسباب.

وتقول الحكمة التباوية “إنك إذا وجدت من يفصل في قضيتك فقد انتصرت، وهذا لا يعني أنك لا تجد من يتدخل، بل يجب أن ترضي نفسك وتقنعها أن القضاء هو الحل، وكذلك لا يعني أنك ربحت القضية كما تحب نفسك، بل ربحت لأن قضيتك وصلت إلى القضاء وبين يدي قضاة”.

ونظرا إلى الاعتزاز الكبير بدستور “كوندودي” أصبح اسمه يطلق على عدد من المؤسسات الاجتماعية والثقافية، ومن ذلك قاعة “كوندودي لتراث وثقافة التبو” التي افتتحها مركز الدراسات التباوية في متحف ليبيا بقصر الخلد بطرابلس في الرابع من مارس الماضي.

وبحسب عبدالله لبن مدير مركز الدراسات التباوية، فإن هذه القاعة هي بذرة لمشروع ثقافي يهدف إلى التعريف بثقافة التبو وعاداتهم وتقاليدهم، وسيتم تزويد القاعة ببعض المقتنيات التراثية والمعدات التي يستخدمها التبو بالإضافة إلى الملابس التقليدية ومعروضات من الحلي والأواني والمفروشات، ويعمل المركز على إنجاز شريط وثائقي عن التبو لتحقيق المزيد من التقارب بين كل مكونات الشعب الليبي من خلال التعرف على الآخر واحترام ثقافته وموروثه ومشاركته مناسباته الاجتماعية والثقافية.

12