كمال أبوعيطة السياسي العائد من رومانسية الثورة

تعدد الصفات التي أطلقت على وزير القوى العاملة في مصر سابقا كمال أبوعيطة، وجميعها تعبر عن أنه لا يزال في عقل ووجدان فئة كبيرة من المواطنين والنخبة السياسية التي أدمنت الوقوف في صف المعارضة، حيث كان خلال السنوات التي سبقت ثورة يناير 2011 والتي تلتها ملء السمع والبصر في الشارع.
عندما انحسرت عنه الأضواء لاحقا لم ينسه من خبروه في أثناء مشاركته في الكثير من الاحتجاجات التي شهدتها ميادين القاهرة الرئيسية، حيث كان رمزا عماليا لافتا ويشار إليه بالبنان، ومن أبرز من أطلق عليهم لقب “الهتيفة”، وهم من يهتفون في المظاهرات بحماس، وجرى حمله على الأكتاف لشدة دفاعه عن حقوق العمال.
عادت أحاديث وحوارات وتصريحات أبوعيطة خلال الأيام الماضية تنتشر في بعض وسائل الإعلام المصرية بعد أن اختير ضمن لجنة العفو الرئاسية المنوط بها فحص ملفات المعتقلين والمحبوسين تمهيدا للإفراج عنهم بقرارات من الرئيس عبدالفتاح السيسي، وحظي وجود اسمه ضمن لجنة العفو بعد إعادة تشكيلها أخيرا بارتياح شخصيات عرفته عن كثب ومواطنين سمعوا بطلبه الإفراج عن جميع معتقلي الرأي، خاصة حين أن شغل منصب الأمين للجنة الدفاع عن سجناء الرأي.
يشير تاريخ الرجل النضالي في الدفاع عن قضايا العمال إلى أنه ينحاز دوما إلى البسطاء والمظلومين، ويشعر أنه واحد منهم، ولذلك منح جزءا كبيرا من وقته لهم، ولم يبخل عن مساعدتهم وهو يقود المظاهرات من أجلهم في أواخر عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وبعد سقوطه.
الصوت والأيقونة
ظهر وسط الكثير من الاحتجاجات العمالية التي تصاعدت حدتها كأيقونة، فكل مظاهرة شارك فيها كانت تمثل عنوانا على قوة الحشد، وحفظ شعارات رنانة رددها يساريو مصر عندما كانت تشتد عليهم حلقات التضييق والاعتقال في عهود سابقة.
كان وجوده في قلب المظاهرات يكفي لمعرفة أنها لن تمر بسلام أو من دون احتكاك مع أجهزة الأمن في عهد مبارك، فإما أن يعتقل وإما يتسبب في وقوع بعض المتظاهرين في قبضتهم، خاصة بعد أن أسس في ذلك الوقت ما يعرف بـ”الاتحاد المصري للنقابات المستقلة”، وتحولت رئاسته للاتحاد الوليد إلى صداع في رأس الاتحاد الرسمي الذي ارتمى رؤساؤه في أحضان السلطة وتمكنوا من شل حركته وتجاهل الكثير من مطالب وحقوق العمال، وتحول إلى بطة عرجاء لا تستطيع مواجهة التحديات.
خصص جل وقته للبسطاء وهمومهم، وأسس اللجنة القومية للدفاع عن حقوق العمال والفلاحين الذين يعتبرهم الدينامو الحقيقي في مجتمع يجب أن يحتل مواطنوه مرتبة متقدمة في سلم أولويات أي حكومة مصرية، ولم يهدأ في دفاعه عن هذه الشريحة الواسعة، ولم يرتح له بال وهو يرى وجود ما يشبه الاستهداف المنظم لها.
نسيم ثورة يناير
ولد أبوعيطة في مارس 1953، وحصل على ليسانس الفلسفة وعلم النفس عام 1976، ثم نال ليسانس الحقوق، ومكنته هذه الدراسة المزدوجة من أن يكون قريبا من فهم أوجاع الشارع ونبض الناس، وأسهمت في معرفته للقانون والتفاني في رفع الظلم عن العمال أو الفلاحين، أو أي من الفئات الكادحة الأخرى.
ازداد اسمه لمعانا عقب نجاح نضاله في ما عرف بـ”معركة الضرائب العقارية” وتمكنه من الذود عن حقوق العاملين في هذه الهيئة، وارتبط اسمه بمكافحة الفساد بشتى أشكاله، وكان من أوائل الذين بشرت ممارساتهم في الشارع بنسيم ثورة يناير.
أبوعيطة رفض المنصب الوزاري حين عرض عليه عقب ثورة يناير، وحصر خصومته في جماعة الإخوان، وبعد سقوط حكمها قبل بتولي حقيبة القوى العاملة، وحاول أن يصنع منها بوابة لعدم المساس بأوضاع العمال
عندما اندلعت الثورة تحول إلى وجهة لكثير من القوى السياسية، لم يحصر نفسه في توجهاته اليسارية وانفتح على جميع التيارات المصرية، وبدا رمزا لدى فئة كبيرة من الشباب، حيث امتلك حنجرة ذهبية ذائعة الصيت وطريقة شعبوية تدغدغ المشاعر وتخطف القلوب، ما مكنه من دخول البرلمان على حصان الاحتجاجات التي برع في قيادتها، ثم تولي منصب وزير القوى العاملة في حكومة حازم الببلاوي خلال الفترة من يوليو 2013 وحتى فبراير 2014.
عرضت عليه هذه الوزارة عقب ثورة يناير ورفضها، وحصر خصومته في جماعة الإخوان عندما نجحت في امتلاك الأغلبية في البرلمان، ثم تمكن مرشحها محمد مرسي من الوصول إلى مقعد رئيس الجمهورية خلال الفترة من يونيو 2012 إلى يونيو 2013، وبعد سقوط حكم الجماعة قبل بتولي حقيبة القوى العاملة، وحاول أن يصنع منها بوابة لعدم المساس بأوضاع العمال وجلب المزيد من الحقوق المهضومة لهم.
عمل للمحافظة على التحالف السياسي الذي قاد ثورة يونيو ومنع تفككه، غير أن محاولته التي بلورها في مشروع قدمه لرئيس الوزراء حازم الببلاوي تبخرت ولم يجد من يحرصون على جمع الشمل مرة أخرى.
عرف أبوعيطة بالتعفف الشديد، حتى أنه قبل بمعاش زهيد بعد خروجه من الوزارة لا يتجاوز بضعة دولارات بأسعار هذه الأيام، ورفض الاستجابة لنصائح عدد من أصدقائه كي يتقدم بطلب للحكومة للحصول على زيادة أو معاش استثنائي، كما رفض رفع دعوى قضائية على الحكومة ليتساوى راتبه بالوزراء الجدد، حيث قفز معاشهم قفزة هائلة تصل إلى ألفي دولار حاليا.
يمارس مهنة المحاماة ليتمكن من تلبية احتياجاته الأساسية، ويخدم العمال الذين أفنى جانبا كبيرا من عمره في الدفاع عن حقوقهم بعد أن أغلقت أبواب النزول إلى الشوارع والميادين للاحتجاج وتوقف زمن المظاهرات التي كان أحد نجومها لتمتعه بخطاب جذاب وسيمفونية بارعة من الشعارات تعجب المشاركين فيها والناظرين إليها.
وصفه البعض من المتابعين لمسيرته السياسية والمعجبين بنضاله العمالي بأنه المدافع عن حقوق الكادحين، وصوت الغلابة في المظاهرات، والثائر السياسي، وضمير الناس، ومؤذن الثورة، وكلها صفات تعكس حقيقة معدنه وتبيّن طبيعة الدور الذي قام به في الحياة المصرية، ولا يزال، حيث يحاول استكمال بطريقة أخرى.
الحوار والرؤية
يلاحظ كل من تابع تصريحات أبوعيطة الفترة الماضية أن الرجل عركته أو عصرته الأيام، تخلى كثيرا عما عرف عنه بأنه صاحب الصوت العالي في المظاهرات التي ولى زمنها، وجاءت قوانين صارمة تمنعها رضخ لها أو تجاوب معها وتفهم مغزاها، ربما بالغ في التقيد بها، كأن نحو عشر سنوات من الكمون والبقاء في الظل أجهضت على ما تبقى من ثورية في قاموسه السياسي.
كشف ما يمكن وصفه عنده بالتحول الشكلي، من دون تغيير في المضمون، أنه يريد التعايش مع الأوضاع الراهنة وترجيح المبدأ البرغماتي “خذ وطالب” أو الثقة في أن عمله في لجنة العفو عن المحبوسين يمكن أن يأتي بنتائج إيجابية يصعب تفويتها، خاصة أن تشكيل اللجنة حوى طيفا واسعا من الشخصيات التي تمثل ألوانا سياسية مختلفة. علاوة على أن إعادة تشكيلها ومن بين أعضائها أبوعيطة جاء في خضم دعوة الرئيس السيسي إلى حوار وطني شامل، ظهرت اللجنة والحوار كمترادفين أو متلازمتين، فلا غنى لإحداهما على الأخرى وإحراز تقدم في الأولى يؤدي إلى تقدم في الثانية، والعكس، من هنا تنبع قيمة الدعوة وتوقيتها وما تنطوي عليه من دلالات سياسية.
يؤمن أبوعيطة أن الحوار ضرورة سياسية في مصر، وأن الدعوة إليه تأخرت كثيرا، فلا يوجد، على حد قوله، مجتمع يسير من دون حوار بين أطرافه، لكن يبدو أنه يعمل بمبدأ “أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا”، وهو ما جعله يتعرض إلى انتقادات من رفقاء دربه الذين وجدوا في مشاركته داخل لجنة العفو وحماسه للحوار كوجه يساري عتيد يعني التخلي عن جزء معتبر من ثوابته التي لازمته على مدار تاريخه النضالي.
نحت مصطلحا لا يزال يرن في آذان البعض في صدد تعبيره عن التوجه نحو إجراء إصلاحات سياسية حقيقية، حيث قال “غياب الحوار يجعل الطبلة بديلا”، وهي العبارة التي تحتمل تفسيرات عديدة، بل وتأويلات متباينة، فالمغزى الرئيسي منها هو أن تصبح الحياة السياسية فارغة ويملأها أصحاب الصوت العالي في تأييد الحكومة بلا حكمة أو رشادة، وبالطبع بلا ضمير، لأن غياب الحوار في رأيه يعني “غياب الرؤية”.
تصوراته تحوي قدرا من التخلي عن أحلام فترة الشباب والابتعاد عن ممارسة الرومانسية السياسية التي ترى أن الثورة والمظاهرات والاحتجاجات والاشتباك العشوائي مع الشأن العام، أفضل وسيلة لانتزاع الحقوق من السلطة
حفلت تعليقاته الأخيرة برؤى تعبر عن مدى الهموم التي يحملها النقابي العمالي والوزير الأسبق على كتفيه، وأنه لا يزال متسقا مع قناعاته المحورية، فهو يرى أن الشباب عماد الأمة، أي أمة، والحوار يمنعهم من الانحراف والتطرف، شريطة إزالة الاحتقانات التي تجعل الحوار السياسي ناجحا وتمهد الطريق أمام تطبيق مخرجاته.
يبقى يخالف توقعات من رأوا أن الحوار لن يتمخض عن تغيير في الخارطة السياسية، وأكد أنه متفائل ولم يستجب لنصيحة المعارض ممدوح حمزة الذي كتب تدوينة على تويتر طالبه فيها بالاستقالة من عضوية لجنة العفو، فرضها انطلاقا من أنه أحد المهمومين بملف المحبوسين منذ زمن. وهو يرى أن المئات من الطلبات التي تلقاها بأسماء أشخاص يطلبون الانضمام إلى قوائم العفو بعد انطلاقها تستحق التضحية من أجلها وعدم الوقوف أمام الأصوات التي تعاملت مع القشرة الخارجية للجنة التي يعتقد البعض من المعارضين أنها أنشئت وعادت بسبب حاجة النظام المصري إلى تحسين صورته في الداخل والخارج.
لا يعبأ أبوعيطة بهذا النوع من التفسيرات ولا يقف عند الدوافع التي حاول رفاقه ترويجها على نطاق واسع كي يترفع عن المشاركة في لجنة العفو، ما يؤكد أن هناك طبعة أو نسخة جديدة من شخصيته تشكلت خلال سنوات الغياب عن الشارع والعمل العام برمته أصبحت أكثر ميلا لتغليب المنهج العملي في التعامل مع القضايا السياسية.
تحوي تصوراته وتصرفاته قدرا من التخلي عن أحلام فترة الشباب والابتعاد عن ممارسة الرومانسية السياسية التي ترى أن الثورة والمظاهرات والاحتجاجات والاشتباك العشوائي مع الشأن العام، وحتى هدم المجتمع وأركانه، أفضل وسيلة لانتزاع الحقوق من السلطة وبات أكثر ميلا إلى الليونة وعزوفا عن الصخب.
يبدو الدور الذي سوف يلعبه أبوعيطة الفترة المقبلة فاصلا في مسيرته النضالية، بعد أن أصبح يراهن على أن هناك أفقا جيدا لحدوث تغيير في الواقع السياسي المصري، لأن فشل هذا الرهان يمنح أصدقاءه الذين رفضوا التجاوب معه، قبل خصومه، فرصة للتشفي في قيادي عمالي يعتقدون أنه فقد بوصلته السياسية التي كانت هادية له على مدار سنوات طويلة.