كلهم أهلي
منذ أول الصباح لم يكن يومي عاديا.. وكنت رغم ارتباكي مستعدّة نفسيا للفرح.. وهو ما حدثَ لي فعلا وبأكثر مما توقعت.. كان لتاريخ اليوم أن يحيلني إلى ذكرى مناسبة شخصية عزيزة على قلبي.. ولم أكن اُضمر في نفسي أي خطة للاحتفال.. ليأتي الليل بعد أن أكون قد أطلقتُ عليه أربعاء الفرح دون خطط أو ترتيبات.. فلا أجمل من الأفراحِ الصغيرة في خضم أحزان كبيرة لا تروم عنـّا غيابا..
لم أكن لأتردد يوما في تلبية أي دعوة تصلني من زميلات وصديقات مدرستي القديمة: ثانوية القديس توما.. وكان الموعد هذه المرة خاصاً جدا بعد أن أبلغتني صديقتي شيرين بدعوة شخصية من نيافة مطران السريان الأرثودكس لحضور حفل استقبال في الكنيسة للأمير تشارلز ولي العهد البريطاني.. في التفاتة من الأخير للقاء بعض الاُسَـرِ النازحة بعد أحداث الموصل..
حضرتُ الحفل البهيج في الكنيسة مثلما حضرهُ بعض الإعلاميين ورجال الدين المسلمين.. وامتلأتْ عيناي وروحي بالورد والبخور ومهرجان الفرح بأعياد الميلاد المجيد.. وإذ طالَ الإنتظار قليلاً هتفتُ لشيرين وهي تكادُ تسمعُ صوتَ قلبي: “لم يعدْ يهمّـُني الآن حضور الأمير.. فقد تشرّبَ قلبي بفرحةِ عيدٍ ولمةِ أهلٍ تكفي لتعمِّرَ الروح بكل ما فقدتُ وأفتقدُ من رائحةِ الوطنِ البعيد!”..
لكن الأمير يحضر.. ويستمعُ لشكوى النازحين وللكلمة الراقية التي تلاها نيافةُ المطران الذي أنهاها بأن يهدي الأميرَ كتابَ “الجوهرة المخفية” في سردِ تاريخ الآرامية.. وهدية بسيطة للحفيد الملكي الجديد تقيه من الحسد!.. وهي عبارة عن حجلٍ من الذهب الخالص مزود بجرس وصليب و”عفصة” و”ودعة” و”سن الفيل”..
وقد أبدعه صائغ عراقي موصلي أصيل مازال يعيش في العراق.. نستمع لصوت الأمير وهو يشكرنا على الهدية القيمة ويحدثنا عن حزنه وألمه لما يحصل في بلادنا.. وإذ يسلم على الحاضرين.. اُهديه ديوان شعري المترجم إلى اللغـة الإنكليزيـة.. فيشكرني مؤكدا بأنه يعشق الشعر!..
أسرع الخطى بعد مغادرة الكنيسة.. لألتحقَ بموعدي المسائي في بيت السلام.. حيث أقامت مؤسسة الحوار الإنساني التي أسسها آية الله السيد حسين الصدر بالتعاون مع منتدى مير بصري أمسية ثقافية عنوانها: “حكايات أهل الطرب”.. يقدمها المفكر العراقي اليهودي البروفيسور سامي زبيدة..
ساعتانِ من التفاصيل الجميلة لبغداد في النصف الأول من القرن الماضي تحيلني إلى عالم خياليٍّ خاص متفرد.. يشبهُ حكايات ألفِ ليلةٍ وليلة.. بفارقٍ وحيد أنه عالم حقيقي مُعاش.. يتحدث عنه شاهدٌ من أهله بحنينٍ بغدادي جارف.. وبلهجة بغدادية لا يخطئها القلب.. أتنفس صعداءَ المحبة وتمتلئُ رئتاي بتعقيباتِ الجمهور العراقيّ الذي مثـّلَ فسيفساءنا الملونة بكل ألوان الطوائفِ والأعراق والأقليات والديانات والقوميات والعقائد..
وإذ يسألُ أحدُ الحاضرين عن مفهوم الهوية.. أتذكرُ كلماتِ المطران توما وهو يحدثنا عن أرض الرافدين أرض السلام والمحبة التي اجتاحها الغرباء وشتتوا أهلها وزرعوا بينهم الفتنة والشقاق.. وتتردّدُ في اُذني كلمات التراتيل الكنسية: “حبيبتنا يا أرض النهرين.. أفواهنا العطشى تنادي مياهك.. فاسقِنا من عذب فراتك.. اشتقنا يا أرضنا”..
في المكانين تجمهرَ قومي الذين أخرجوا من ديارهم قسرا أو اضطرارا أو اختيارا.. ولم يكن صعبا أن أعرفَ أن كل هؤلاء هم أهلي.. وإنني ابنة أرض الرافدين.. وقد تجاوزَ عمري فيها آلاف السنين من الحب والحنين والانتماء..