كلاب بافلوف

كان صديقي المصور متمردا، لأنه لا يقبل واجبات صحافية إلا من النوع الثقيل، فهو قد عاش طويلا في الجبال وشق الوديان، ورغم أنه لم يحظ بتعليم عال، لكنه يظل يصرخ كلما يرى شخصا يحتمي بالسلطة وهو يردد غاضبا “كلاب بافلوف”.
ويبدأ بسرد معلوماته المتواضعة عن ذلك العالم الروسي الذي لم يكن شيوعيا مثله.
قلت لجاسم الزبيدي، الذي رحل عن الدنيا مبكرا، وهو كثير الإعجاب بصاحبه “من هم كلاب بافلوف بنظرك؟”. قال “أولئك الذين كلما يقابلوني يشعروني بأني شيوعيا”.
وأخذ يشرح لي عن إعجابه به وعن أمنياته بأن يدرس أحدٌ ظاهرة التصاق بعض الأفراد بالسلطة كما درس صديقه الروسي مطلع القرن الماضي علاقة الكلاب بمدربها وحراسها، دون أن يعلم صديقي الزبيدي أن البريطانيين جون واطسون وزوجته روزالي درسا مفهوم المثير الشرطي واللاشرطي على الأطفال بعد عشرين سنة من تجاربه، وكيف يمكن تطبيق نظرية “الإشراط الكلاسيكي” لتوليد خوف الأطفال من الفئران البيضاء.
ورغم أن التجربة عُدّت لا أخلاقية فإنه من الأخلاقي إعادة تجربتها على السياسيين الذين يعتنقون الفساد منهجا في حياتهم كلما اقتربوا من أمانة المال العام، وتسويغ سرقته بمشاريع وعقود وهمية و”كومنشنات” وتحوّلهم إلى نماذج بافلوفية، ومادة دراسية، نتيجة الضرر البالغ على المجتمع، حتى تكرّس منحى اتجاه لدى بعض الأفراد بأن السلطة أضحت مثيرا شرطيا يسيل لها اللعاب للحصول على المال بكل الوسائل اللاأخلاقية، فهي العامل الذي يُثير حافز الاستلاب والسرقة ونزع القيم العامة، وإذا كان العلم لا يجيز إجراء التجارب على البشر ويعرّض الوسائل المخبرية إلى الانتقاد والمساءلة القانونية، كما تعرّض له واطسون وزوجته، فإن الراشدين الذين يعرفون القوانين وهم مؤتمنون عليها لكنهم يسوّغون خرقها حين تمسّ الأمور بمصالحهم، لا بدّ من إخضاعهم لظروف تجريبية لدراسة مثيرات وعيهم عند ممارسة السلطة وعلاقتها بكمية سيل اللعاب عند تولّي المال العام.
وما هي المثيرات التي تؤدي إلى الاستجابة التي تُثار قبيل فعل السرقة وتسويغ الفساد والتخلي عن كل الشعارات الانتخابية، بل التمادي والتناغم مع ظاهرة الفساد السلطوي السائد.
أظنه موضوعا بات مبررا في بعض التجارب العربية والعالمية حين تمارس بعض السلطات نهبا أسطوريا لمقدرات بلدانها، وإذا كانت نظرية بافلوف تقوم على أساس عملية الارتباط الشرطي، حيث يمكن لأي مثير بيئي محايد أن يكتسب القدرة على التأثير في وظائف الجسم الطبيعية والنفسية إذا ما رافقه مثير آخر من شأنه أن يثير استجابة طبيعية أو إشراطية أخرى، فمن واجب علماء السلوك الاجتماعي- النفسي أن يتصدوا للسلوك السياسي أيضا بفعل مثير السلطة السياسية على الأفراد الذين يتحولون هم وأتباعهم إلى قوارض للمال العام.