كرة القدم.. الأفيون الذي لا يقاوم

الحدث اتخذ أبعادا أسطورية في تأثيره على جميع العلاقات والمجالات الحياتية، لغة الأقدام طغت على ما سواها من اللغات، إن العالم بأسره يرقص على أنغام اللعبة، غير عابئ بمشكلاته المستفحلة، غير قادر على التفكير خارج إطار الجلد المدوّر.
الأحد 2018/07/01
مفاهيم الانتماء والوطنية تتجذّر في فترة مشاركة المنتخبات

يختلف كل شيء في العالم على وقع نهائيات كأس العالم، تُجنّد كل الطاقات البشرية والماديّة واللوجستية لتشارك في العرس الكروي الذي ينتظم كلّ أربع سنوات. إنّ كرة القدم أشدّ تأثيرا في النفوس والأسر والمجتمعات من وقع السياسة وضغط الاقتصاد وتفشي الحروب ومخلفاتها وانتشار الآفات الاجتماعية والأوبئة وغيرها.

يتوحّد الخطاب في مشارق الأرض ومغاربها، وتصبح كلّ الشعوب والأمم تتكلّم لغة الكرة على اختلاف اللغات واللهجات، إنّه خطاب مشحون يزخر بمفاهيم ومصطلحات البطولة كما ينتابه الوهن عند الفشل والعجز.

كل العائلات بمختلف انتماءاتها ومرجعياتها الدينية والفكرية والأخلاقية تتكلّم لغة كرة القدم، يتحلّق الأفراد، نساء ورجالا، شبابا وشيبا، في فضاءاتهم الأسرية وفي المقاهي والأماكن العامة حيث يقع تركيز شاشات عملاقة لمتابعة مقابلات منتخب البلاد، وتنتقل مهرجانات التشجيع بطقوسها وبهرجها الاحتفالي-الثقافي إلى هذه الفضاءات في كل ركن من الأرض، ما أعظم العلم والمنجزات التكنولوجية التي مكّنت كل البشر على وجه البسيطة من مشاهدة مقابلات نهائيات كأس العالم.

من الغرابة بمكان أن ينسى النّاس مآسيهم ومشكلاتهم وأزماتهم بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والصحيّة والاجتماعية، فالصراع المرير على السلطة في كلّ مكان وخاصّة في بؤر التوتّر يتلاشى في خضمّ مشاهدة المقابلات، وانحدار قيمة العملات والتضخم والمديونية وضعف القدرة الشرائية، كلها أمور شديدة الأهمية والتأثير في حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات، حتى أنها تكون في بعض الأحيان سببا مباشرا في سقوط هامات في السياسة والاقتصاد، تصبح لا معنى لها أمام الدهشة التي تحدثها المقابلات.

كلّ المواضيع مهما كانت هامّة وضرورية ومتأكدة قابلة للتأجيل، لا صوت يعلو على نهائيات كأس العالم، إنه الحدث الأبرز على الإطلاق على وجه الأرض، بعض الأحداث تحتل صدارة الاهتمام الفردي والجماعي على مستوى عالمي، من ذلك مثلا الانتخابات في أقوى الدول في العالم سياسيا وعسكريا واقتصاديا كالولايات المتحدة الأميركية، ولكنها لا ترقى إلى أهمية حدث كأس العالم.

على المستوى الأسري، يعتبر اهتمام الذكور باللعبة الأكثر شعبية في العالم أمرا طبيعيا لأن أكثر ممارسيها من الرجال، ولكن النساء أيضا يدلين بدلوهن في الموضوع، وتصبح أسماء بعض اللاعبين المشهورين كميسي الأرجنتيني ونيمار البرازيلي ورونالدو البرتغالي ولوكاكو البلجيكي وغيرهم، محور حديثهن ومقارناتهن، كرة القدم أضحت تؤثث مجالسهن بل أصبحن يقارعن أبناءهن وأزواجهن ويجادلن حتى في ما يخص خطط اللعب والتغييرات والتحكيم.

الاهتمام بكرة القدم في نهائيات كأس العالم لم يعد مجرّد حدث عالمي يستقطب اهتمام الجميع من الأفراد العاديين والسياسيين وأصحاب رؤوس الأموال وأباطرة الإعلام التقليدي والمستحدث، ولكنه أصبح ظاهرة فريدة لا بدّ أن تخضع للدراسات المعمقة بآليات علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والسياسة والاقتصاد..

الحدث اتخذ أبعادا أسطورية في تأثيره على جميع العلاقات والمجالات الحياتية، لغة الأقدام طغت على ما سواها من اللغات، إن العالم بأسره يرقص على أنغام اللعبة، غير عابئ بمشكلاته المستفحلة، غير قادر على التفكير خارج إطار الجلد المدوّر.

اللافت للنظر أيضا أن مفاهيم الانتماء والوطنية تتجذّر في فترة مشاركة المنتخبات، فالكرة أقوى الأحزاب على الإطلاق بإمكانها التجميع والتحشيد، وبإمكانها توحيد الناس دون أي مراعاة للاختلافات بينهم، إنّ الكرة هي أقوى الأيديولوجيات وأكثرها استيعابا وهضما وتنفيذا. الكلّ يصطف اصطفافا رهيبا وراء الراية الوطنية في أكثر مظهر احتشد فيه الناس معبرين عن مساندتهم وتشجيعهم وفرحهم وغضبهم وودّهم وسخطهم، بحركة طريفة أو تمريرة حاسمة أو إحراز هدف، يمكن أن تصل سعادة الجماهير إلى مداها الأقصى ويصبح اللاعب والمنتخب والممرن أبطالا خارقين تتعاظم قدرتهم وقيمتهم ووطنيتهم أيضا.

أمّا الخطأ ومهما كان هيّنا وبسيطا فهو غير قابل للتجاوز أو الغفران خاصة إذا تسبب في تعادل أو خسارة، ويساهم كل ذلك في نكسة “أعظم من نكسة الجيوش العربية في حرب 67”. الكرة هي “المفهوم الحقيقي للوطن والوطنية”. من الناحية السيكولوجية هناك ما يبرّر هذا التأثير الغريب لأن المشكلات التي تضخّمت في حياة البشر حتى أضحت خبزهم اليومي جعلتهم يبحثون عن الفرح والانعتاق والتحرّر من الضغوط اليومية لحياتهم، فاللعب الجميل وتسجيل الأهداف يتفاعل معهما المشاهد ويتجاوز كل الضوابط التي يفرضها العرف والعادات والقوانين، تهتزّ المنازل والمقاهي والساحات العامة كما تهتزّ مدرجات الملاعب بهتافات الجماهير.

وتصاحب فعاليات كأس العالم العديد من الأنشطة الترفيهية في مدن وملاعب البلد المنظم، وتزدهر السياحة وينشط الاقتصاد.. إن الكرة هي المفتاح السحري لتجاوز الأزمات وهي كذلك الحل الأمثل للمشكلات المطروحة بالنسبة للبلد المنظم والمتوجين في آخر الفعالية.

وهذه الأدوار التي تلعبها كرة القدم بات السياسيون يستثمرونها إما لتوسيع قاعدة داعميهم وإما للتغطية على العجز والتقصير والفشل، فبقدر ما لهذه اللعبة من آثار إيجابية على العلاقات الأسرية والاجتماعية والدولية، فإن لها سلبيات من قبيل تخدير الناس لينسوا مشكلاتهم الحقيقية.

18