كتاب غير مرغوب فيهم

الجمعة 2016/08/26

إلى أيّ أرض ينتمي الكاتب؟ إلى أرض الأدب أم إلى أرض المنشأ؟ هل يكفيه سقف نصوصه أم يحتاج، مثل غيره، إلى انتماء جغرافي وآخر سياسي؟ قد يبدو، للوهلة الأولى، سؤالا كلاسيكيا، لكن الإجابة عنه لم تُحسم بعد، تختلف من شخص إلى آخر، وفي النّهاية يظلّ الكاتب معلقا، لا يعرف أين يضع رجليه تحديدا، وأي أرض تسع شغفه وحماقاته أيضا، من دون أن تُنتهك حقوقه أو يتعرّض لمضايقات أو رقابة!

الكاتب هو مواطن، بالدرجة الأولى، هو جزء من مجتمع، له مثل غيره حقوق، وعليه واجبات، ولكنّ هناك كتّابا فقدوا –بسبب مواقف لهم– حقّهم في المواطنة، امّحت أسماؤهم من سجلات الحالة المدنية، وصاروا بلا وطن، صاروا أسماء أدبية بلا هوية.

الكاتب إيفو أندريتش يمثّل حالة استثنائية، فقد عاش بهويات متعدّدة، بانتماء موسّع إلى أكثر من بلد، عاش حياة ممدّدة على جغرافيات عدّة، ليجد نفسه، بعد رحيله، معلقا في السّماء، بلا هوية، وبلا بلد يحتضن ذاكرته. جائزة نوبل للأدب التي حصل عليها عام 1961، لم تزد سوى من عزلته، هذا الكاتب البوسني المولد، الكرواتي التنشئة، والصّربي الجنسية، وجد نفسه غير مرغوب فيه، في لحظة انفجار البلقان إلى دويلات، كان من المؤمنين بدولة يوغسلافيا الكبرى، وعضوا نشطا في الجماعة السّرية “اليد السّوداء” التي تأسّست في بدايات القرن العشرين، كان يحلم بيوغسلافيا واحدة، التي خطّط لها، مع رفاق له بحدود تبدأ من ألبانيا وتصل إلى ألمانيا، وتشمل بذلك النّمسا وشمال إيطاليا، تحقّق جزء من مشروعه مع الزّعيم تيتو، ولكن بمجرد سقوط “الحلم”، بداية من مطلع تسعينات القرن الماضي، صار أندريتش خصما لمواطنيه، لا البوسنيون قبلوا تبني ذاكرته ولا الكروات، ولا الذين سحبوا نصوصه من المقررات المدرسية، أما الصرب فقد نصبوا له، في البداية، تمثالا، ثم تخلوا عنه، واليوم يصعب على الدّارسين تصنيف إيفو أندريتش في أي بلد كان، هو كاتب عالمي من دون بلد، معلّق في اللامكان، ينتمي فقط إلى الكتابة دون غيرها، ولا مجتمع يريد تبني ذاكرة كاتب أوصل اللغة الصربوكرواتية إلى العالمية، وعجز، في الوقت ذاته، عن تخيّل مآلات وطنه، اصطف في خندق سياسي ضيّق، ودفع الثّمن بعد رحيله. وقد فكّر، قبل سنوات، المخرج أمير كوستوريتسا في اقتباس رواية أندريتش الشّهيرة “جسر على نهر درينا” سينمائيا، لكن المشروع لم يلق ما يستحق من دعم، كما لو أن الجميع متّفق على دفن صاحب نوبل للأدب 1961، جسدا وروحا.

حالة إيفو أندريتش ليست الوحيدة من نوعها، فقبله عرف الشّاعر الجزائري جان موهوب عمروش (1906-1962) مصيرا مشابها، فبلده تنكّر له، بعد الاستقلال (1962)، وفرنسا التي كان يكتب بلغتها ومقربا من مثقفيها، لم تفعل شيئا لانتشاله من اللا انتماء، ليصير شاعرا بلا هوية، بلا جنسية محدّدة، بلا ماض، غير مرغوب فيه من ضفّتي المتوسط، ترك أشعاره وأعماله في أرض لا تعترف به، صار معلقا مثل أندريتش في فضاء مفتوح لا تحتويه سوى هوية الكتابة.

من الصّعب أن نحصر سيرة جان موهوب عمروش في بضع كلمات وأثره الأدبي، منذ مجموعته الأولى “رماد” (1934)، يشهد على أهميته، لكن خصومه تناسوا ماضيه الأدبي، وحاكموه بعد الاستقلال على جمل مبتورة من سياقها، كقوله مرّة “فرنسا هي عقل روحي، والجزائر هي روح عقلي”، أدانوه باللانضال في ثورة التّحرير، وتنكر له الفرنسيون من جهتهم، رغم ما تركه لهم من أرشيف أدبيّ مهمّ، سواء في أعماله الإبداعية، أو في نشاطه في الراديو، وحواراته الوثائقية، مع أبرز أدباء النصف الأوّل من القرن الماضي: ألبير كامو، روني شار، إدغار موران وغيرهم.

ثم جاءت “شعبوية” ما بعد الاستقلال لتزيد من عزلة الشّاعر، ففي السنوات الأولى من ستينات القرن الماضي، كان هناك خطاب ثقافي يرتفع في الدّوائر الرّسمية في الجزائر، يدّعي أن “تنصير” الجزائر هو شكل من أشكال الاستعمار، وجان موهوب عمروش “تنصّر” مع عائلته، وهذا كان سببا إضافيا لاقتلاعه من وطنه.

في اللحظات التّاريخية الكبرى، تبرز أهمية المثقف، يصير موقفه “بارودا”، “وقودا للمعركة”، هناك من المثقفين طبعا من يميل إلى خيارات الجموع، ويصطف في جهة الشّعب، وهناك من يتخاذل، وهناك نوع ثالث يحاول الإمساك بالعصا من الوسط، كما كان الحال مع إيفو أندريتش وجان موهوب عمروش، وهو نوع سيدفع الثّمن لا محالة، في غمرة التصفيات التي تلي الثورات، ليجد نفسه في النّهاية بلا انتماء سوى انتمائه الحرّ إلى جمهورية الأدب.

كاتب من الجزائر

14