كارل ساغان فلكي جعل العلم في متناول الملايين

السبت 2014/12/13
كارل ساغان الحاضر بأفكاره عن الكون

في فيلم “اتصال” للمخرج روبرت زيميكس، المأخوذ عن رواية تحمل ذات الاسم للعالم الأميركي الراحل كارل ساغان، وحين تصل رائدة الفضاء إيلي إلى منتهى رحلتها، وتشاهد المشهد البديع الذي لم تتوقع أن ترى مثله في حياتها، تصرخ مذهولة: “لم يكن عليهم أن يرسلوا رائد فضاء إلى هنا، بل كان عليهم أن يرسلوا شاعرا”.


خيال الفلكي


رواية “اتصال” بنى ساغان أحداثها على حادثة تلقي المراصد الفضائية الأرضية إشارات إلكترونية مبهمة، وهي واقعة كان يمكن لها أن تحدث اختراقا في بحث العالم عن كائنات ذكية تعيش في الكون.

هذه الرواية دفعت الكثيرين من المشاهدين إلى التجول في عوالم الشخص الذي يقف وراء هذه التحفة البصرية المكتنزة للعديد من المواقف الإنسانية التي تقوم على فلسفة إنسانية عميقة وراسخة. وربما بقليل من المقابلة بين الأفكار والرؤى التي يقدمها الفيلم المهدى إلى المؤلف ذاته، يمكن للقارئ أو المشاهد المسترسل في التفكير في ما قدمه ساغان، أن يصرخ، كان عليهم ألا يسموا هذا الرجل عالما، بل كان عليهم أن يسموه فيلسوفا.

وقوع الكثيرين من غير المختصين في العلوم في عشق آراء ومؤلفات الرجل الذي يعتبر واحدا من أهم وألمع علماء الفلك في القرن العشرين، يشي بعمق يتجاوز الحيثيات العلمية الأولى التي اتبعها وهو يحاول ترسيخ التفكير العلمي في الظواهر، ليصل إلى تبني فلسفة خاصة، تربط بين العلم ومبادئه، وبين ضرورة أن يتخلى الإنسان عن الأوهام الأيديولوجية، وأن يذهب عميقا في قراءة وجوده بوصفه مجرد لحظة زمنية، في عمر الكون.

ورغم أن مسألة إيمانه الديني شغلت العديدين ممن أرضتهم نزعته العلمية، ولكنهم لم يرغبوا في أن تقترن العلمية بقضية الإلحاد، إلا أن الـ “لا أدرية” كانت سيدة موقف أجوبته في ما يخص علاقة العلم بالعقيدة الدينية، والتي تؤدي إلى طرح الأسئلة حول وجود الخالق لهذا الكون.

فساغان الذي رأى أن اتساع هذا الكون أكبر من قدرة الإنسان على تقدير الأمر، جزم للقراء بألا محدودية اتساع الكون يقابلها محدودية وضيق في التفكير لدى البشر، وهذا ما يعقد المسألة.


عدو التجهيل


ولد كارل ساغان في العام 1934، في حي بروكلين بمدينة نيويورك الأميركية ورحل عن عمر يناهز الـ 62 سنة في العام 1996، إثر معاناة مع متلازمة خلل نسيج نخاع العظم، استمرت أكثر من عامين، ومعاناة أخرى استمرت طيلة حياته العملية مع التيارات التجهيلية في المجتمعات الغربية وغيرها، التجهيل هنا ليس مرادفا لتغييب المعرفة، بل هو المعادل الفعلي لاستثمار العلم بطريقة تكرس جهل الإنسان بالحقائق العلمية، وبما يقوده إلى أن يبرر لذاته عدم فعاليته في تغيير العالم، ولهذا كان ساغان مهجوساً بتبسيط المادة العلمية لتصبح متاحة لعقل الإنسان البسيطـ غير المتعمق، وبما يضمن ألا يقع هذا الإنسان فريسة لأكاذيب وترهات وسائل الإعلام التي تبحث عن المثير والغريب، حتى وإن كلفها ذلك أن تكفر بالعلم وحقائقه الأولية، وتبني الأساطير حول التفوق العرقي لبعض الأعراق البشرية على حساب غيرها.

وهكذا، وضمن هذا السياق، يصبح موقف الإنسان من الحروب ومن الديكتاتوريات منسجما مع رؤية عنصرية، ترى أن البشر غير متساوين، وأنه من الطبيعي أن يحكم العالم بسيطرة الأقوياء الذين لهم الحق في أن يفعلوا ما يريدون بالكوكب وشعوبه.

عانى ساغان من مرض في نخاع العظام وعانى معه من التجهيل الذي أراد استثمار العلم لتكريس جهل الإنسان بحقائق العلوم


نقطة زرقاء في الأفق


كوكب الأرض الذي رآه ساغان مجرد “نقطة زرقاء باهتة في الأفق”، عنوان أحد أهم كتبه، كان ومازال حسب فلسفته يستحق مستقبلا أفضل، ولهذا سيجاهر ساغان بالاحتجاج على برنامج “حرب النجوم” العسكري، الذي عملت عليه إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وسيعلن كرهه لتصرفاته الغبية مثل رفضه التوقيع على معاهدة ريو دي جانيرو الخاصة بالحد من انتشار الغازات المدمرة للبيئة، وسيكتب في هذا الكتاب: “تفكر لوهلةٍ في أنهارِ الدماءِ التي أراقها جنرالاتُ الحربِ وأباطرتَها، لينتصروا ويصبحوا أسيادا لحظيينَ، على جزءٍ عشريّ من نقطة.

تفكر لوهلةٍ بالقسوة التي ملأتْ قلبَ شعبٍ عاش على إحدى زوايا هذه النقطة، ليغير ويتغلب على شعبٍ آخرَ، عاش على زاويةٍ أخرى منها، بالكاد نستطيع التمييز بينهم. كم كان جهلُهُم، وسوءُ فهمهم للآخر؟! كم كان غرورهم، ليقتُل أحدُهم الآخر؟! كم كانت كراهيتُهم الشديدة وبغضَهم لبعضهم البعضْ؟!”.

درس ساغان الفيزياء في جامعة شيكاغو ونال شهادته فيها في العام 1955 وتدرج في شهاداته العلمية، لينال شهادة الدكتوراه في علم الفلك والفيزياء الفلكية، وليعمل محاضرا وباحثا في جامعة هارفارد حتى العام 1968 حيث انتقل إلى جامعة كورنيل لينال فيها درجة الأستاذ (بروفيسور) في العام 1971. اشترك ساغان في العديد من البرامج العلمية في الجامعات الأميركية، وفي عدد من برامج الفضاء الأميركية، كبرنامج Viking لاكتشاف كوكب المريخ، ورغم كثافة ما قدمه على الصعيد العلمي من أبحاث ودراسات، إلا أن الجمهور في العالم كله، ولاسيما ذلك الجمهور الشعبي البسيط ما زال يتذكر ويستعيد مستمتعا تلك السلسلة الوثائقية التلفزيونية التي قدمها ساغان بنفسه تحت عنوان “الكون”، وشاهدها أكثر من 200 مليون شخص في ستين بلدا، وبيع من الكتاب الذي يحمل نفس الاسم 5 مليون نسخة.

كوكب الأرض الذي رآه ساغان مجرد "نقطة زرقاء باهتة في الأفق" رآه ايضاً يستحق مستقبلا أفضل، فاحتج على برنامج حرب النجوم

وهنا يجب على المتابعين ألا ينسوا كيف أمكن لهذا الرجل أن يتنازل عن لغة العلم الصلدة والقاسية لصالح لغة بسيطة مختلفة، تذهب بالمتلقي إلى الأفق ذاته الذي يمضي إليه التطور العلمي، دون أن تغرقه في المفاهيم والمصطلحات، وبما يكفي لأن يفهم هذا الإنسان البسيط كيف استطاع العلم أن يخطو هذه الخطوات في اتجاه تفكيك الكون المجهول الذي تبني الميديا العالمية على ألغازه الكثير من منتجاتها التجارية، وكيف أن مسيرة هذا العلم ستفضي حتما إلى إحداث الفرق بين أن يعيش البشر على أوهام تتحكم بحياتهم، وبين أن ينطلقوا في أفق عالمي جديد، يحفظ الأمن ويضمن السلامة للجنس البشري.


ميزان ساغان


المؤلفات التي قدمها ساغان، بالإضافة إلى مئات الأبحاث المتفرقة المنشورة في عدد هائل من الدوريات العلمية والمجلات، تكشف عن عالمٍ متبحر في سيكولوجية الجنس البشري، وفي هواجسه ومخاوفه، ولهذا فإننا، وبالتوازي مع المعلومات العلمية المبسطة في هذه المؤلفات، نتلمس تفاصيل تبنى على التعاطي مع الراهن، على أرضية نقدية، تتعدى مجرد القبول بالأفكار أو رفضها، فساغان يرى أن ما “يجب أن نسعى إليه هو التوازن التامُّ بين حاجتين متضاربتين: التفحص النقدي الدقيق لكل النظريات التي وصلت إلينا، وفي الآن ذاته الانفتاح الكبير لتقبُّل الأفكار الجديدة، فإذا ما كنتَ نقدياً، فلن تقتنع بأي أفكارٍ جديدة، وأما إذا ما كنتَ منفتحا إلى حدّ السذاجة ولم يكن لديك أيُّ حسٍّ نقدي، فإنك لن تستطيع عندها تمييز الأفكار المفيدة عن تلك عديمة القيمة”.

غير أن السؤال الذي بقي ملحا لديه ولدى الآخرين الذين يعملون في ذات المسار الذي عمل فيه، إنما هو كيف يمكن لمتلقي المنجزات العلمية أن يحافظوا على هذا التوازن، وكيف يمكن للعقل البشري أن يقيم توازنا آخر بين الانقلابات المعرفية دائمة الحدوث بسبب من تطور العلم والاكتشافات، وبين النظريات الفلسفية التي تسعى لتأطير ما يحدث من تطور معرفي وعلمي ضمن ممكناتها، وذلك على أرض واقع عالمي لا يتطور اجتماعيا واقتصاديا بما يخدم البشرية جمعاء، بل يتراجع لصالح النخب الاقتصادية التي تتغول في استغلالها للبشر ولمقدرات الكوكب.

ساغان الذي حاول ألا ينساق للإشكالي في القضايا الفلسفية والمجتمعية، من باب حيادية العلم، لم يقم بتطهير التفكير العلمي، بل حمّل نصه المعرفي مفاتيح لا يعجز عن التقاطها العارفون بجدلية العلاقة بين العلم وبين القضايا المجتمعية، وطنيا أو عالميا، ولهذا فإن مقاربة النص العلمي في كتاب مثل “عالم تسكنه الشياطين” هي بشكل أو بآخر مقاربة سياسية، تضع القارئ في مواجهة مع صناع الجهل في العالم ومن يقفون وراءهم.

ما يزال سكان الأرض يتذكرون بمتعة سلسلة الأفلام الوثائقية التي قدمها ساغان بنفسه، وشاهدها أكثر من مئتي مليون إنسان في ستين بلداً حول العالم

وهذا المسعى لا يمكن للقارئ الفطن أن يمر عليه مرور الكرام، طالما أننا نعرف بحقيقة مواقف ساغان الراديكالية في القضايا الإنسانية الملحة كالحفاظ على البيئة وكذلك كراهيته الشديدة للعنصرية المتفشية في المجتمعات الغربية، ورفضه للحروب التي شنتها الدول ذات النزعات الإمبريالية ودعهما للدكتاتوريات في العالم.


ساغان بالعربي


ترجمت أغلب أعمال كارل ساغان إلى اللغة العربية، ولاسيما مؤلفاته الأساسية التي قام بتأليفها ضمن مسعاه لتبسيط الأفكار العلمية لتكون متاحة أمام عقل رجل الشارع العادي، مثل كتاب “الكون” وكتاب “الأرض نقطة زرقاء باهتة في الأفق”، وكتاب “عالم تسكنه الشياطين” وكتاب “رومانسية العلم” وكتاب “تأملات في تطور ذكاء الإنسان”، وغيرها، غير أن الملفت في هذا السياق أن العديد من منظري السلفية والأصولية في المنطقة العربية ما زالوا يتجشمون عناء مناقشة أراء ساغان بعد سنوات طويلة من رحيله عن عالمنا، ويحاولون دحضها، والرد عليها بوصفها أفكارا مخربة ومغرضة، وصولاً إلى تكفير صاحبها، واعتباره مهرطقا، وداعية للإلحاد، لكن ساغان لم يكن سوى عاشق كبير للكون متعمق في حقائقه، مترفّع عن حروبه ونزاعاته وشروره.

14