كابتن ماجد أو "الأب القائد"؟

فاز مقال الكاهن السابق والكاتب السوري روجيه أصفر بجائزة سمير قصير لعام 2019، عن فئة مقال الرأي، في ختام احتفال أقيم في بيروت، فيما نال السوري علي الإبراهيم جائزة التحقيق الاستقصائي عن تحقيق بعنوان “تزوير الموت في السجون العسكرية السورية”، بينما فاز المغربي يوسف زيراوي بفئة التقرير الإخباري السمعي البصري عن قصته “بشرى: امرأة”.
حين كان الأسد بلا شبله “بطلنا” السري أيضًا شكلت الشخصيات الرئيسية في برامج الأطفال أبطال شريحة واسعة من الأطفال السوريين، مع الكابتن ماجد والكابتن رابح فالصياد الصغير وماوكلي فتى الأدغال. ولم يكن العثور على بطلك الشخصي سهلًا في برامج الأطفال التي تعرض في سوريا، فكثير منها يبدو أشبه بفصول هاربة من رواية مأساوية لمكسيم غوركي، حيث طفل يجول بحثًا عن أهله الذين فقدهم، أو صبية تيتمت وافتقرت وبدأت تعاني اضطهاد مديرة المدرسة!
أيضًا كانت لأبطال حكايات الجدات حصتهم في تصدر مخيلات الأطفال وقلوبهم: الشاطر حسن وعنترة بن شداد وغيرهما، أما “الأبطال” الدينيون كالأنبياء ورغم نيلهم مكانة مميزة في تربية هؤلاء الأطفال إلا أنهم بدوا خارج إطار الواقع المعيش، فصاروا ربما في مكانة ما فوق الأبطال.
من جهة أخرى وعلى أرض الواقع، بعيدًا عن الشخصيات الكرتونية والمتخيلة والمقدسة، وقبل عصر “السوشيال ميديا” هذا، لا أعتقد أن خياراتنا كأطفال في سوريا كانت متنوعة أو متعددة: فصورة الرئيس المناضل حاضرة في كل مكان، في الصف فوق السبورة، وفي الشارع، وفي الدوائر الحكومية، وفي منزلك ضمن كتبك ودفاترك المدرسية… لا مفر. هو بطلك المفروض عليك فرضًا. ثم تسللت إلى مشهديتنا نحن مواليد أواخر سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي صور الباسل، ابن القائد المناضل، يطل ممتطيًا فرسه أو مرتديًا نظارته الشمسية المهيبة من نوع “راي بان” مع ثيابه العسكرية المرقطة التي لا تشبه الثياب “الممضوغة” للجنود الذين نراهم في الطرقات.
كان خالي المهووس بالموسيقى وذو الشخصية الغامضة والمحببة في آن على علاقة شخصية بالباسل كما كان ينادى مع “أل” التعريف. وكان خالي ذاك لا يكل ولا يمل من امتداح شخصيته في المنزل، فيما كانت محاولات رسم القائد والباسل في حصص التربية الفنية أمرًا رائجًا، وقد يحسب هنا لنظام القائد المناضل أنه لم يحاسبنا على ما فعلنا عن حسن نية وقتها بسحنته في محاولاتنا اليائسة لتصويره… يمكنني أن أتذكر حتى اللحظة كلمات ولحن الأغنية التي لم أسمعها منذ 15 عامًا، كأنها بالأمس: “أبو باسل قائدنا، يا بو الجبين العالي، تسلم وتصون بلدنا من غدرات الليالي”.
ولكن، وبكل فخر كانت محاولاتي الفنية معدودة إذ كانت تتحطم عند محاولات رسم الجبين العالي… رسم نظارات الرايبان والبدلة المرقطة كان أسهل.
“استشهد” الباسل في حادث أفجع الكثيرين حينها، وأظن خالي بكى كثيرًا، وسررنا بالطبع بعطلة مدرسية غير متوقعة وإن كنا حرمنا من مظاهر الابتهاج الطفولي العلني.
في باحة المدرسة رحنا نردد الأهزوجة بينما اعتلى رفيقانا باسل وبشار منكبي كل زميل من الزملاء وأطلقا هتافًا رحنا نردده معهما “لا تزعل ولا تحتار، راح باسل أجا بشار”، لم يكن قد مضى إلا 3 أيام على “استشهاد” الباسل آنذاك، وكنا نحن أطفالًا في الصف الرابع الابتدائي.
بعد أسابيع زُرعت شجرة زيتون صغيرة في زاوية محضرة بعناية وعلقت بجانبها رخامة حفر عليها “شجرة الخلود للشهيد الباسل”.
لاحقًا وفيما نحن في مخيم كشفي في قرية قريبة من منطقة وادي النصارى، ذهبنا لنلعب في فناء المدرسة الحكومية، وهناك، وكالعادة كانت لوحة تؤرخ لافتتاح المدرسة، وتمتدح عطاء من الأب القائد، وبالطبع كانت اللوحة الرخامية تحمل شكلًا معدنيًا جانبيًا لرأس القائد، الحاضر في كل مكان. لا أدري ما الذي دفعني يومها إلى استلال قلم التخطيط أحمر اللون لأضيف لمسة حمراء على عين القائد الخالد… ربما من باب كسر طغيان اللون الرمادي على الرأس الذي تعاقبت عليه الفصول في فناء المدرسة. عدنا إلى مخيمنا الأساسي بعد يوم كشفي طويل، في اليوم التالي استدعاني القائد الكشفي المسؤول عني، وهو يرتجف، “شو عملت؟”، كنت قد نسيت الأمر تمامًا، فذكّرَني، ولم أدرِ كيف أبرر فعلتي.
في الصف التاسع لمس أساتذتي حسن اتقاني للغة، فكنت أكلف بكتابة الخطابات لإلقائها في المناسبات الوطنية على تلاميذ المرحلتين الإعدادية والثانوية. والمناسبات الوطنية هي “الحركة التصحيحية المباركة”، و”حرب تشرين التحريرية”، و”ميلاد الحزب العملاق” وهكذا. وكنت ألقي الكلمة معتليًا شبه منصة على تلاميذ المرحلتين في باحة تتوسط المساحة الفاصلة بين المطرانية والكنيسة، فأقف أنا في الظل وبقية التلاميذ تحت الشمس بمن فيهم أخي الكبير ورفاقه. وجرت العادة على أن يقاطع التلاميذ الكلمات المشابهة بالتصفيق والهتاف كلما ذُكر اسم القائد الخالد. أخي ورفاقه كانوا لرغبة في الشغب والمرح يقاطعون كلمتي كل عشر ثوان عمليًا، حتى من دون ذكر الاسم السحري، هاتفين كالعادة “بالروح بالدم نفديك يا حافظ… حافظ أسد رمز الثورة العربية”، عالمين ألا أحد من المعلمين أو الإدارة أو حتى الأب المسؤول سيجرؤ على زجرهم.
من جهتي، كل ما كان في وسعي فعله، الإطالة بكلمتي قدر الإمكان ممجدًا الأب القائد المناضل ومعددًا إنجازاته ومكرماته لإبقائهم في الشمس أطول مدة ممكنة انتقامًا منهم.
مرت 3 سنوات على ذاك المخيم، وذهبنا في مخيم كشفي آخر. سهرنا للحديث عن القدوة والمثل الأعلى لكل منا، فكان كل بدوره يذكر بطله أو مثاله الأعلى ثم يشرح سبب اختياره، وحين حان دوري قلت بعد تردد بسيط “حافظ الأسد”، وبررت اختياري من خلال ما قرأته عن سيرة القائد المناضل في مؤلف باتريك سيل، كيف انطلق من بيئته المتواضعة المحرومة ليصل إلى أعلى هرم السلطة في البلاد… كنت فعلًا معجبًا به وكان بطلي، على إدراكي المبهم آنذاك لـ”الوجه الآخر” لبطلي هذا.
كان حافظ الأسد وأحيانًا باسل وبشار هم أبطال كثيرين منا، أكان ذلك فعلًا واعيًا أم لا، مفهومًا أم مستغربًا. أنظر اليوم من حولي، وأتمعن في غالبية معارضي النظام السوري: مؤسسات المعارضة السياسية وأجسامها، الفصائل والميليشيات العسكرية المعارضة على تنوعها، الكثير الكثير من منظمات ومؤسسات “المجتمع المدني” السوري وصولًا إلى سلوكياتنا في وسائل التواصل الاجتماعي… هل أنتجت أو أفرزت بعد 7 سنوات أنماطًا للسلطة والإدارة والتعامل إلا تلك الأسدية البعثية؟
معارضون عتاة، يمسون أسديين ما إن تأتي سيرة الآخر، أكان يمثل بلدًا كلبنان مثلًا أو عرقًا كمواطنيهم الأكراد. مديرو منظمات مدنية ينطقون باسم الثورة ولم يختبروا من الإدارة إلا الاتكاء على عيون وآذان يزرعونها هنا وهناك، وكتابة التقارير والتمييز والتحريض وطلب الولاءات الشخصية… وغير ذلك مما لا يسمح المجال بذكره.
الأسد، الأب والأبناء، كانوا أبطالنا، ويبدو أنهم سيبقون -على كره وإنكار منا- أبطالنا حتى يأتي يوم يخرج فيه الشبل الذي في داخلنا فنصبح حينها، وحينها فقط أحرارًا من ثقل بطولاتنا.