كأس أوروبا لكرة القدم موعد لاختناق القارة بالتلوث

تعتبر كرة القدم اللعبة الشعبية في أنحاء العالم لها اللآلاف من المشجعين في كل مدينة والملايين في كل دولة، عددهم الغفير يطرح إشكاليات بيئية متعددة من خلال سفرهم في وسائل نقل تستعمل وقودا غير صديق للبيئة، إضافة إلى ما يخلفونه من قمامة حيث ما حلوا، الاتحاد الأوروبي لكرة القدم تعهد بأن تكون دورة 2020 لكأس أوروبا صديقة للبيئة، لكن ذلك أثار جدلا واسعا من قبل ناشطي البيئة لأن هذه الدورة تتوزع على 12 بلدا.
باريس- تحتفل 12 دولة أوروبية بالذكرى الستين لبطولة كأس أوروبا لكرة القدم من خلال الاشتراك في تنظيم نهائيات 2020 في سابقة تاريخية تثير الجدل حول ما ستسببه من انبعاثات كثيفة نتيجة سفر الآلاف من المشجعين، إضافة إلى العديد من المنتخبات إذ سيتم قطع الآلاف من الكيلومترات عبر الطائرات والسيارات والحافلات والقطارات خلال شهر كامل.
وقد كشفت دراسات علمية فرنسية، أنّ عمليات انتقال اللاعبين والجماهير في وسائل النقل التي تستخدم وقوداً غير صديق للبيئة، تُسهم في تزايد الانبعاثات الكربونية الضارة بالبيئة.
وكان الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (ويفا) أعلن عام 2012، حين كان لا يزال برئاسة الفرنسي ميشال بلاتيني، منح حق الاستضافة لـ12 دولة احتفالا بالذكرى الستين للبطولة.
ويتساءل أنصار البيئة عمّا سيخلفه العدد الهائل من الجماهير المسافرة لمتابعة مباريات فرقها من تأثيرات بيئية، خاصة وأن المشجعين سيحتاجون إلى أماكن إقامة ووسائل نقل واستهلاك الغذاء بالإضافة إلى ما سيخلفونه من قمامة، وهذه كلها خطوات ستساهم في زيادة معدل البصمة الكربونية، رغم وعود المنظمين الحاليين بأن تكون البطولة صديقة للبيئة.
وعد مستحيل
إذا نظرنا إلى الواقع، نجد أنه سيكون من الصعب الالتزام بهذا الوعد الذي قطعه الاتحاد الأوروبي على نفسه بحماية البيئة، فعلى سبيل المثال سيتحتم على الجماهير البولندية السفر أكثر من 6 آلاف كيلومتر في غضون عشرة أيام لمتابعة مباريات دور المجموعات، حيث تلعب بولندا، التي أوقعتها القرعة في المجموعة الخامسة إلى جانب إسبانيا والسويد ومنتخب سيتأهل عن الملحق، مبارياتها في دبلن ومن ثم بلباو الإسبانية قبل العودة إلى العاصمة الأيرلندية.
وستقام بعض المباريات الأخرى في باكو عاصمة أذربيجان في أقصى شرق أوروبا على بعد ما يقارب 5 آلاف كيلومتر من لندن التي تستضيف مبارتي نصف النهائي والمباراة النهائية في ملعب ويمبلي.
دورة 2020 ستكون على عكس دورة 2016 التي أقيمت في فرنسا، والدورة المقبلة التي تستضيفها ألمانيا عام 2024، حيث المسافات قصيرة كفاية للتنقل بسهولة عبر القطار.
وقالت الفرنسية كاريما ديلي، العضو في أحد الأحزاب الفرنسية المدافعة عن البيئة ورئيسة لجنة النقل والسياحة في الاتحاد الأوروبي، “هذا هراء كامل من وجهة نظر بيئية. يقولون، إن النظام الجديد من شأنه أن يظهر وحدة أوروبا، لكنهم ينسون أن هناك حالة طوارئ مناخية”.
في المقابل يؤكد الاتحاد الأوروبي لكرة القدم أنه أخذ “حالة الطوارئ” هذه في الاعتبار، مؤكدا أنه “يأخذ خطوات جدية لضمان أن تكون كأس أوروبا 2020 أكثر البطولات وعيا تجاه البيئة حتى الآن”.
ناشطون لا يقتنعون
اعترف رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم السلوفيني ألكسندر تشيفرين في سبتمبر الماضي أن كرة القدم “لم تفعل الكثير من أجل البيئة”.
ويتعهد الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بالاستثمار في “مشاريع لخفض الانبعاثات”، ويزعم زراعة 50 ألف شجرة في كل مدينة مضيفة من أجل “ترك إرث دائم”، إلا أن ذلك لا يقنع خبراء البيئة.
ويعتبر أندرو ويلفلي، باحث في مركز تيندال لأبحاث التغير المناخي في جامعة مانشستر، أن “زراعة الأشجار أمر جيد، ولكن زراعة الأشجار ومن ثم الرحيل لا يحل المشكلة، في نهاية المطاف، فإن ذلك لن يغير من كمية الانبعاثات الناتجة خلال البطولة”.
ويسعى الاتحاد الأوروبي أيضا لخفض الانبعاثات من خلال الإتاحة للجماهير باستخدام وسائل النقل العام مجانا في أيام المباريات وإعادة تدوير المزيد من النفايات.
وأشار الاتحاد الأوروبي لكرة القدم أن الجماهير والفرق ستنتج ما يقارب الـ425 ألف طنّ من انبعاثات الكربون طيلة فترة البطولة، مقارنة بـ517 ألف طنّ خلال كأس أوروبا 2016 في فرنسا.
لا يأخذ هذا الرقم في الحسبان الانبعاثات الناتجة عن الملاعب وغيرها، فمثلاً كانت بطولة كأس العالم لكرة القدم التي نُظمت بمشاركة 32 منتخبا عام 2018 في روسيا وحدها مسؤولة عن انبعاث ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون، التي أسهم فيها مئات الآلاف من الأشخاص الذين ذهبوا إلى هناك.
ويشير أندرو ويلفلي إلى أن الانبعاثات الناتجة عن الجماهير المسافرة هي “أصعب ما يمكن تحديده بالكمية. إذ ستستند التقديرات على الكثير من الفرضيات المختلفة التي ستكون بحد ذاتها واقعية إلى حدّ ما”.
يتعهد الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بالاستثمار في “مشاريع لخفض الانبعاثات”، ويزعم زراعة 50 ألف شجرة في كل مدينة مضيفة من أجل “ترك إرث دائم”
ورغم كل تلك الخطوات، إلا أن الهاجس الأكبر الذي يقف في وجه البيئة هو توسيع البطولات الكبرى بعد أن بات 24 منتخبا يشارك في كأس أوروبا بدلا من 16، في حين سيرتفع العدد في المونديال الى 48 بدلا من 32.
وعلّق ويلفلي “إذا ما أصبح التغير المناخي أولوية، هناك العديد من السبل لتنظيم هذه البطولات بطريقة مختلفة. لماذا لا يتم اختيار البلد المضيف على أساس مسألة النقل؟ ربما بإمكانهم خفض عدد المباريات”.
ومن غير المرجح أن يُعتمد هذا النظام على امتداد أوروبا في الأعوام المقبلة، وقد أشاد “ويفا”، “بالبنى التحتية الممتازة” في ألمانيا مضيفة النسخة المقبلة. فهل يكون يورو 2024 أول بطولة صديقة للبيئة فعليا؟
واتخذت العديد من الدول الأوروبية في السنوات الأخيرة تدابير صارمة في مجال البيئة للحد من المستويات المرتفعة للانبعاثات الكربونية، لكنّ المحللين يرون أن هذه التجربة البيئية الطموحة تواجه تحدّيا مضاعفا تعكسه الإجراءات التي سيتم اتخاذها عند استضافة البطولة، إذ كيف سيتم التعامل مع العدد الهائل من الجماهير الوافدة لمتابعة منتخباتها وما ستسبّبه من تأثيرات، وفي ذات السياق محاولة الخروج ببطولة ناجحة وبأخف الانتقادات الممكنة.
وتحاول المدن التي ستنتظم فيها المباريات أن تقلل من المخاطر البيئية التي ستخلفها الجماهير الغفيرة التي ستنتشر في الملاعب والشوارع والحدائق، فكوبنهاغن التي اختيرت في العام 2014 “العاصمة الأوروبية الخضراء” تخطط لاستخدام أكواب قابلة لإعادة التدوير، وتقديم منتجات عضوية، وتحسين إدارة النفايات والحدّ من استخدام البلاستيك ذي الاستعمال الوحيد.
يقول ينس بيتر مورتنسن من الجمعية الدنماركية للحفاظ على الطبيعية ” بالتأكيد يجب على المعنيين بذل جهد أفضل للحيلولة دون انتشار استخدام البلاستيك المخصص لاستعمال وحيد”.
رعاية سيئة السمعة
لا يثق ناشطو البيئة في وعود الاتحاد الأوروبي لكرة القدم مع تواجد رعاة لهذ الدورة، أمثال شركة فولكسفاغن الألمانية لصناعة السيارات، وشركة النفط الأذربيجانية الحكومية “سوكار”، خاصة وأن منظمي كأس أوروبا 2020 مصممون على التعامل مع شركات ذات سجل غير نظيف رغم تصريحاتهم المتكررة عن تنظيم بطولة صديقة للبيئة.
وفي الوقت الذي يزعم فيه الاتحاد الاوروبي لكرة القدم أن البطولة ستكون أكثر البطولات صديقة للبيئة على الإطلاق، بقيت فولكسفاغن راعيا رسميا أساسيا في بطولاته الدولية منذ عام 2017، رغم الفضيحة التي ظهرت للعلن عام 2015 عندما اعترفت بالغش في الاختبارات الخاصة بالانبعاثات من سياراتها التي تستخدم مادة الديزل.
وتعرّض الاتحاد الأوروبي لكرة القدم للعديد من الانتقادات لإقامة البطولة في 12 بلدا على امتداد أوروبا، ما سيؤدي إلى انبعاثات كربونية جراء سفر المشجعين والمنتخبات.
إضافة إلى ذلك، لا تزال شركة “غازبروم” الروسية الحكومية المختصة في إنتاج الغاز الطبيعي واستخراجه راعيا أساسيا في دوري أبطال أوروبا منذ عام 2012.
ويقول النقاد، إن الشركة الرائدة السوفياتية سابقا لا تستخرج فقط الهيدروكربون بطريقة غير مستدامة وتُلوّث البيئة، بل تموّل أنظمة سياسية ذات أفعال مشكوك فيها حيال الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أما شركة “سوكار” الحكومية فتتولى إدارتها عائلة علييف الحاكمة منذ استقلال أذربيجان عن الاتحاد السوفياتي، وهي عائلة نادرا ما التزمت باحترام حقوق الإنسان.
لا يثق ناشطو البيئة في وعود الاتحاد الأوروبي لكرة القدم مع تواجد رعاة لهذ الدورة، أمثال شركة فولكسفاغن الألمانية لصناعة السيارات، وشركة النفط الأذربيجانية الحكومية "سوكار"
كما ويعتبر نقاد الكرملين (مقر الرئيس الروسي)، أن “غازبروم”، التي تحتكر الغاز في روسيا، هي إحدى أدوات السياسة الخارجية التي يستخدمها الرئيس فلاديمير بوتين لتعزيز مصالح الدولة السياسية والاقتصادية.
وأكد الاتحاد الاوروبي أنه “يدرك المعضلة” التي تشكلها كل من “سوكار” و”غازبروم” فيما ما يخص تأثيرهما على البيئة.
وقال “ويفا”، “نعتقد أنه من المفيد محاولة تطبيق معايير الإدارة المستدامة في حدث معين، عندما يكون الأمر ممكنا، حين ننظم بطولة كبرى”.
وسيكون شعارا الشركتين منتشرين خلال البطولة لا سيما لكونهما يتمتعان بروابط قوية مع ملعبين من الملاعب المضيفة، فملعب مدينة سان بطرسبرغ الروسية يسمى “غازبروم أرينا”، رغم أن المنظمين سيغيرون اسمه خلال البطولة.
وأنفقت شركة “سوكار” ما لا يقل عن 850 مليون دولار على ملعب العاصمة باكو، وفق ما أفادت جمعية “أو سي سي أر بي” غير الحكومية التي تعمل مع صحافيي استقصاء في شرق أوروبا.
وساعد عدم الحاجة إلى إقامة أيّ مشاريع جديدة من ملاعب وبنى تحتية وتجهيزات لاستضافة المباريات في الحد من الأثر البيئي المتوقع لمباريات كأس أوروبا.
منظمو الدورة يتوقعون أن تحديد هذا الأثر بشكل دقيق يتطلب الانتظار إلى حين الانتهاء من هذه الاستضافة ووداع اللاعبين والمشجعين.