قَدَر المحافظة

يمكن أن نعرّف المحافظة، في حقول الفن والأدب، بأنها النزعة الرامية إلى التواؤم مع الأسلوب، واعتباره قاعدة، لا يمكن التخلي عنها. ومن ثم فلا علاقة لها بجوهر التيارات والرؤى. يمكن أن يكون الكاتب كلاسيكيا محافظا، أو ذا نزعة تحديثية، كما يمكن أن يكون الفنان انطباعيا محافظا، أو اختراقيا.
وحين قام لويس الرابع عشر بهدم ساحة “الفوندوم” لبناء أخرى بذوقه، لم يكن محافظا، كانت حساسيته تجاه أساليب في الطراز والنحت غير كلاسيكية، ونهمة لتهويش التزمت المعياري، بينما مثّل قصر فرساي النموذج الدال على محافظته، فالقصر في شق كبير منه هو من تشييد والده.
هل يمكن أن ننعت بالمحافظة بمجرد البقاء على عتبات جمالية موروثة، بالطبع لا، يمكن فهمها بوصفها هاجسا أمنيا، الخوف من الفراغ ومن تبديد التراكم. ففي المحافظة رغبة عقلانية في إيجاد منطق للمسار، ورفض للقطائع. ولا يسلم أي اختيار، مهما كان جنوحه الاختراقي، من رغبة في اكتساح الذائقة العامة، وتطويعها لقواعده الجديدة، ومن ثم التطلع إلى الرسوخ لدى أجيال قادمة؛ أي أن يولد محافظة لدى العقب.
في مقولة للشاعر الإنكليزي ت.هيلم يرى أنه “ينبغي هدم متحف كل عشر سنوات”؛ لم أفهم يوما هذه المقولة بوصفها رغبة في محو ما يتضمن المتحف من أعمال، وإنما في إعادة صياغة المعروض، وهو ما تجلى بشكل واضح حينما انتقلت اللوحات والمنحوتات من الكاتدرائيات إلى القصور، إلى مؤسسات مستقلة، إلى أروقة لا تحتفظ بذخائر ثابتة.
استعدت هذه التفاصيل مع العودة التدريجية لمركزية اللوحة في بؤرة الاشتغال الفني، بعد سنوات من السعي لنفي صيغها من مدارات الفن المعاصر. يتجلى الأمر مرة أخرى شبيها بالتصالح مع المسار ومع القاعدة ومع تاريخ الأساليب، لا مجرد محافظة جديدة، متصلة بالجو العام المتراجع إلى يمينية سياسية واقتصادية وانغلاق قومي واعتصام بثوابت القيمة في أسواق المال.
هل المحافظة لعنة الإبداع، يمكن أن تكون، ذلك ما يبرر على الأقل الملايين من النسخ التي بيعت من “الإليادة” و”أوديب ملكا” و”ضون كيخوطي” و”روبنسون كروزو” و”الجريمة والعقاب” و”الحرب والسلام” والآلاف من الصور للوحات “الموناليزا” و”الوصيفات” و”خيانة المسيح”، و”فتاة بقرط لؤلؤي”، و”موت سندرانابال” و”راقصة الباليه”…، لقراء ومشاهدين لم يكفوا يوما عن الاستسلام لفتنة القاعدة، مهما اهتزت قناعاتهم، وعصفت بهم الشكوك، وتمردوا على قيد الأسلوب المستقر المعادي للزيغ.
يخيّل إليّ أحيانا أن المحافظة جوهر إنساني قبل أن يكون إبداعيا، بل يكاد يمثّل الحقيقة الوحيدة الدالة على الخوف الفطري من المجهول، حتى لو كان المجهول مغريا. ذلك ما يفسر عودة مناهضين كبار للعقائد الدينية إلى الاحتماء ببعض تفاصيلها في اللحظات الأخيرة، قبل المغادرة.